حافي القدمين، معتمراً عمة لم يُراعى فيها كثير من التأنق، مرتدياً
تلك الملابس التي صارت رمزاً له ولبني جلدته من الهنود، شامخاً في
تواضعه، راح يمشي بين صفين من آلاف العمال البريطانيين الذين اصطفوا
على حافتي الطريق في محاولة لجذب انتباهه وضرب وتر إنسانيته الكبيرة ،
في نهاية المطاف وقف ليقولوا له: هل ترضى وأنت الإنسان الكبير أن يبقى
هؤلاء الـ250 ألف بريطاني بدون عمل بعد مقاطعتك صناعة النسيج
البريطانية؟
فرد عليهم : لن أضحي بـ250 مليون من بني وطني من أجلكم.
كان هذا رد غاندي على البريطانيين المتضررين من سلاح مقاطعته الذي
شهره في وجههم إبان حربه على الاستعمار، مما أدى لتوقف قرابة ربع مليون
عامل في قطاع النسيج فقط ببريطانيا فخاطبوه راجين رفع المقاطعة لكنه
أبى ذلك فكان أن طلبوا حضوره لمانشستر عاصمة الصناعة عندهم ليرق قلبه
على هؤلاء العمال رغم أنهم لايعانون الجوع والفقر بسبب المقاطعة لأن
النظام يكفل لهم جزءاً من الراتب في حال الأزمات كهذه.
كان سلاح المقاطعة والاكتفاء الذاتي أهم أسلحة غاندي التي استعملها
لتحرير الهند من براثن الانجليز فهو كأنما وعى مقولة أمير المؤمنين
عليه السلام: (احتج إلى من شئت تكن أسيره) فعزم على التحرر صدقاً من كل
مظاهر الأسر العسكرية منها والاقتصادية والفكرية ولكم كان هذا السلاح
ناجعاً فقد عده البريطانيين ضربة في مقتل لمشروعهم الاستعماري لانهم هم
أيضاً يعون أنه متى ما أرادوا استعمار بلد فلا بد من إذلال الشعب عبر
جعله محطة لصناعتهم ووقف كل مبادرات ذلك الشعب للاعتماد على نفسه
والاكتفاء الذاتي في أي مجال من مجالات الحياة .
أما سلاحه الآخر والذي لايقل بحال من الأحوال عن سلاحه الأول فهو
سلاح اللاعنف الذي انتهجه غاندي في قبالة المستعمرين ، ذلك السلاح الذي
من فرط نجاعته حدا بأحد كبار قادة الجيش البريطاني ليصرح (إننا أمام
لاعنف غاندي كالنمر من الورق)، وهو أيضاً ما أنتج معجزة فالتقديرات
تشير أنه لتحرير 500مليون هندي من براثن الاستعمار لم يذهب ضحية ذلك
سوى 200 ألف وهو رقم يعد معجزة في نظر العسكريين وخبراء الحروب من هذا
النوع.
فأين نحن من أسلحة غاندي التي صنعت تاريخ الهند بماء الذهب حتى صارت
الهند اليوم قوة اقتصادية وعسكرية وعلمية وتقنية لا يستهان بها، فكلنا
يعلم ما صنعه الهنود من تقنية تفوق ماصنعه العرب والمسلمون مجتمعين؟
أين نحن من سلاح الاكتفاء الذاتي والتخلي عن الحاجة للآخرين مادمنا
نردد كل حين (احتج إلى من شئت تكن أسيره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره)؟
أين نحن من ذلك ونحن نمشي فوق أخصب بقاع الأرض واكثرها اكتنازاًَ
لمقومات الحياة الرغيدة؟ |