عن الإمام زين العابدين وسيد الساجدين (عليه السلام) في مناجاة
الشاكين: (بسم الله الرحمن الرحيم) إلهي
إليك أشكو نفساً بالسوء أمارة والى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة،
ولسخطك متعرضة، تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة
العلل طويلة الأمل، إن مسها الشر تجزع وإن مسها الخير تمنع، ميالة إلى
اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو، تسرعُ بي إلى الحوبة وتسوفني
بالتوبة، إلهي أشكو إليك عدواً يضلني، وشيطاناً يغويني، قد ملأ
بالوسواس صدري، وأحاطت هواجسه بقلبين يعاضد لي الهوى ويزين لي حب
الدنيا، ويحول بيني وبين الطاقة والزلفى، إلهي إليك أشكو قلباً قاسياً
مع الوسواس متقلباً، وبالزين والطبع متلبساً، وعيناً عن البكاء من خوفك
جامدة، وإلى ما يسرها طامحة، إلهي لا حول ولا قوة إلا بقدرتك، ولا نجاة
لي من مكاره الدنيا إلا بعصمتك، فأسألك ببلاغة حكمتك ونفاذ مشيتك، أن
لا تجعلني لغير جودك متعرضاً، ولا تصيرني للفتن غرضاً، وكي لي على
الأعداء ناصراً، وعلى المخازي والعيوب ساتراً ومن البلاء واقياً، وعن
المعاصي عاصماً برأفتك ورحمتك يا أرحم الراحمين).
قصدنا نقل كلام الإمام (عليه السلام) في المناجاة لأنه أبلغ في
التأثير حيث الإخلاص والصفاء والذوبان في ذات الله سبحانه وتعالى طالباً
منه النجاة باثاً إليه الشكوى.
وهنا يحرص الإمام (عليه السلام) في إيصال فكرة حساسة ومسألة في غاية
الأهمية إلى الناس والتي غالباً ما يغفل الناس عنها، وذلك لخفاءها
وصعوبة ملاحظتها وإدراكها، وهي قضية أعداء الإنسان الأقوياء: فالنفس
الأمارة والشيطان الرجيم والقلب القاسي، هي الثلاثي المدمر والمهلك
للإنسان إن لم يأخذ حذره منها.
فكل واحدة أخطر من الأخرى ففي كل منها سمة الخفاء وقوة السيطرة
وقدرة التسيير إلى الضلال بل نشوة الانتصار عند التمكن من إغواء
الإنسان، ومركزية موقعها في الإنسان.
إذن مسألة المواجهة مع الأعداء الأقوياء مع عدم التكافؤ صعبة جداً.
فعن النفس الأمارة يقول النبي (صلى الله عليه وآله سلم) أعدى عدوك
نفسك التي بين جنبيك) بل جهاد النفس هو الجهاد الأكبر فهي كما ذكره
الإمام (عليه السلام) مبادرة إلى الخطيئة مولعة بالمعاصي، متعرضة لسخط
الله، تهلك الإنسان بسهولة، ميالة إلى اللعب واللهو والشيطان أيضاً لا
يقل خطورته فهو كما يقال: يجمع بين خاءات ثلاث: الخفاء والخبث والخبرة.
فمن ناحية يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه، ولنتصور معركة، أحد طرفيها:
جيش مدرب لا يمكن رؤيته، فهل يمكن للخصم أن يقاوم ذلك الجيش لحظة واحدة؟
ومن ناحية أخرى يعيش حالة الحسد المتأصل لبني آدم الذي كانت خلقه أبيهم
أدم (عليه السلام) مصادفة لأول أيام شقائه ومن هنا أضمر الحقد الدفين
لاستئصال الجنس البشري وسوقه إلى الهاوية ومن ناحية أخرى له تلك الخبرة
العريقة في عملية الإغواء، والتي شملت محاولات التعرض لمسيرة الأنبياء
والمرسلين (عليهم السلام) وإن باءت بالفشل بالنسبة لهم ولكن ما حالنا
نحن الضعفاء والمساكين؟
والقرآن الكريم يحذر من خطوات الشيطان.. إذ أنه لخبرته ودهائه لا
يجر الإنسان إلى المعصية بضربة واحدة – لعلمه بعدم الانقياد له في
المحرمات الكبيرة – ولكنها الخطوات المدروسة التي يتورط بها العبد،
منتقلاً من معصية إلى معصية... ومثاله التطبيقي في عالم هوى النساء: هو
الابتداء بالنظرة، ثم الابتسامة، والسلام والكلام والموعد واللقاء حيث
الارتماء في أحضان الشيطان المنتقم، وإن كان ظاهره هو الارتماء في
أحضان بنات الهوى.
فالشيطان خبير بما يستهويه نفس الإنسان الأمارة فبمعاضدته يحرز نصره.
ولا يخفى على الإمام (عليه السلام) مكر الشيطان وإغوائه بخطواته
اللعينة فيشكوه إلى الله تعالى. وكذلك القلب القاسي الذي أظلم وأسودّ
فلم يعد يرى للخير نوراً ولا للمعروف حرمة بل انطبع على المعصية
والرذيلة.
مع كل هذه المخاطر وقوة الأعداء وعدم التكافؤ فإن الإمام (عليه
السلام) يوصينا بعدم اليأس والقنوط من رحمة الله فالله قادر على كل شيء
وقاهر فوق كل شيء وكل شيء منقاد له فيبدأ بالشكوى إليه تعالى ويرجوا
النجاة فيقول: إلهي لا حول ولا قوة إلا بقدرتك، ولا نجاة لي من مكاره
الدنيا إلا بعصمتك – فالأعداء الأقوياء مع البلاء والامتحان في مقابل
الإنسان هنا لا يمكن للإنسان أن ينجو منها لولا رحمة الله وعصمته.
وبعدها يقول: فأسألك ببلاغة حكمتك ونفاذ مشيتك أن لا تجعلني لغير
جودك متعرضاً، ولا تصيرني للفتن غرضاً، وكن لي على الأعداء ناصراً.
فالتعرض لرحمة الله دون غيره – وطلب النجاة والفوز من الامتحان
والبلاء والنصر على الأعداء الأقوياء – من أعظم نعم الله تعالى.
أللهم بَّصرنا بدينك الحنيف. |