يمكن القول أن شريحة المواطنين الذين يتقدمون على غيرهم من الشرائح
في إبداء السخرية وفضح الظالمين من الحكام في كل العهود هم هؤلاء
السوقيين (أي اللذين لا مصلحة مباشرة لهم في الحياة السياسية القائمة
في بلدانهم وسمو بـ(السوقيين) لكونهم.. يشابهون الأولاد أو العاملين في
الأسواق ممن تفتقد شخصياتهم إلى إبداء الرزانة أو الحلم بكثير من
الأحيان.
وتتميز شخصيات الواعين الذين يستطيعون قراءة أي حاكم من رأسه إلى
أخمص قدميه بأن لهم من الفراسة ما يفتقر لها الآخرون لذلك فإن سخريتهم
غالباً ما يعربوا عنها في مجالسهم الخاصة أو مع من يثقون بهم ثقة
حقيقية لأنهم يعلمون جيداً أن إطلاق أحكام السخرية ضد أي حاكم ظالم
يعقبه حساب عسير.
ولهذا يمكن وصف المواطن الواعي اللامطلوب منه بصورة عادية أن يعرب
عن استيائه من سلطة غاشمة يقودها حاكم ظالم أنه يختار اللحظة المناسبة
ومع الأناس الآخرين الذين غالباً ما يحملوا شيئاً من أفكاره ومثل هذا
النهج في التعامل الحذر عادة ما يتم مع الحكام الطغاة الذين لا يؤتمن
لهم جانب.
ولعل المجتمعات التي ابتليت بنماذج من الحكام القساة القلب
المختارون بعناية من بين حثالة المجتمع المعني هم أولئك الحاكمون
الأكثر عرضة للسخرية التي غالباً ما يصاحب تلك السخرية شيء من اللعن،
والمواطن الواعي الساخر من حاكم بلاده الظالم يراهن على أن ذاك الحاكم
لا بد وأن يقع يوماً في أحد الفخاخ التي ينصبها للناس الأبرياء.
من المعتاد على وجه العموم أن شكل السخرية في بلدان العالم النامي
يأخذ في التداول بالكلام المهموس أساساً للفضح حيث أن أبواب النقد
غالباً ما تكون مغلقة أمام الرأي العام المحلي ولكن بمقارنة بسيطة فإن
بلدان العالم المسمى بـ(المتقدم) يسمح للمواطنين الواعين ومنهم
الصحفيين ورسامي الكاريكاتير أن يدلوا بدلوهم في النقد اللاذع لشخوص
حكامهم وأعضاء حكوماتهم ولكن بحدود معقولة والاستثناءات قليلة جداً حتى
في أكثر البلدان ادعاءً بالديمقراطية!
وتحليل أي رأي لاذع ضد حاكم ظالم يترك أثراً من الارتياح في النفوس
وخصوصاً عند الأشخاص الذين لا يرون مبرراً للظلم وطبيعي فهؤلاء الواعون
الذين يوجهون كلامهم الساخر ضد حكامهم الظالمين غالباً ما يكون غير
دارين بأنهم يساهموا بسحب لبنة من بناء إرهاب دولة الحاكم المذكور إذ
أنهم يثقفون مجتمعهم كي يتبنوا موقفاً سياسياً من ذاك الحاكم ويهيؤ
الظروف النفسية التي ستكون قد تقبلت التعجيل بسقوط أي حاكم ظالم.
لذا فإن الحكام الظالمين يعرفون أنفسهم أكثر مما يعرف بهم لذلك
تراهم يحاولون تسييج عملية النقد الموجهة ضد نهجههم اللامسؤولة في
إدارة شؤون البلاد بقوانين تمنع مثلاً شتم الحاكم أو أحداً من حاشيته
أو حتى أحد أزلامه ممن يشاركوه في أداء جرائمه السياسية ضد الآخرين.
إن ما يتعلق بموضوع سخرية المواطنين الواعين من حكام بلدانهم
الظالمين مسألة تمتد إلى أعماق التاريخ وتوجيه النقد اللاذع للحكام
السابقين والحاضرين هي مصدر مضايقة لهم ولكنهم تجاهلوا ويتجاهلون الآن
أن حب أو كراهية مجتمعاتهم لهم لا يحدد أبناء المجتمع المعني بل أن
انعكاس نهج الحكام هو الذي يحدد درجة تلك المحبة أو الكراهية لهم.
من أريحية الشعور أن الناس يطمحون أن يحكمهم أشخاص يمتازون بنشر
العدل وأنصاف الحقوق حتى يكونوا محل مدح اجتماعي عام ولكن الناس
وبالذات طبقاتهم المثقفة والواعية ماذا تعمل مع حاكم قوي تسنده أمكانات
الدولة بكامل قوتها البشرية العسكرية ورصيدها المالي وقادر على إبادة
من يرفع إصبعه معارضاً لما يقوم به من تقوية كرسي حكمه وهو يتناسى أن
مشروعية أي حاكم في الاستمرار بالحكم هو أن يكون حاكماً عادلاً ولكن
ماذا عن التجربة التي تنقلها الشعوب عبر كل التاريخ البشرية الذي شهد
وتعرف على المزيد من الحكام اللاأسوياء ممن عادوا أبناء جلدتهم لأسباب
سخيفة جداً.
إن منطق التعامل الموضوعي يضع حقاً بين الحاكم والمحكوم وما سخرية
المواطنين من الحكام الظالمين المسلطين على رقاب الشعوب إلا أحد أخطر
المظاهر المتبقية من عصور التخلف والتراجع إلى الوراء.
وعلى أية حال فإن السخرية التي تأخذ شكل نكتة سياسية أو حكاية قصيرة
فيها من العبر ما يمكن أن يسلب النوم من عيون الحكام الظالمين ويزيد
عندهم الشعور بالنقص أكثر. |