يعُرف من الوسطية المعتدلة أن الإفراط والتفريط مضر وله نتائج عكسية
في كل أمر وفي قضية المرأة بعد أن عانت ما عانته من الظلم والحرمان عبر
التاريخ في جميع العالم سوى فترة الإسلام حيث منحها كامل حقوقها – وبعد
تكرّس الوعي الإنساني في أهمية دور المرأة في الحياة، أخذت الأصوات
تتعالى، بالمطالبة بحقوق المرأة ومساواتها مع الرجل، وأنها نصف المجتمع
ولها كرامتها وحقوقها واحترامها كإنسانة تعيش على ظهر هذا الكوكب، وهذه
مطالب طبيعية وإنسانية ينبغي أن تعطاها المرأة لكن الخطر في الإفراط
والغلو في ذلك، كما عليه نداءات عولمة المرأة بجعلها كائناً عالمياً
يمكن وصفه بأنه كائن فوق الحكومات أو كائن عابر للقارات.. فهذه ادعاءات
ليست إلا لجرّها نحو الفساد والرذيلة وتغيب دورها الأساسي في بناء
المجتمع وحفظ تماسكه وإهمال حقوقها الواقعية.
ولجعلها كائناً عالمياً كان لا بد من عقد المؤتمرات الدولية وتوقيع
المعاهدات والاتفاقيات العالمية التي تلزم الحكومات بحقوق هذا الكائن،
وتمثل توصيات المؤتمرات الدولية والمعاهدات والاتفاقيات العالمية
المرجعية العالمية الجديدة التي يمكن وصفها بأنها (أيدلوجية نسوية) لها
قوة الأيدلوجيات السياسية التي عرفها القرن الماضي ثم انهارت وخبت
وماتت.
وكما كان يحدث بالنسبة للأيدلوجيات السياسية والفكرية فإن
الأيدلوجية النسوية الجديدة يراد لها أن يكون معتنقوها في كل العالم
وفي كل الدول والشعوب وفي كل الأعمال، فإنها الوسيلة الجديدة لغزو
العالم وشعوبه، وهي الدين الجديد الذي يُراد للعالم أن يتوحد خلفه
ويدين به: بيد أن الخطر في هذه الأيدلوجية الجديد يكمن في أن الذي يبشر
بها ويدعو إليها هو النظام العالمي الجديد الذي حقق ما اعتبره انتصاراً
نهائياً وعالمياً للفكر الغربي العلماني، ويريد أن يفرض هذا الدين
والأيدلوجية بالقوة على العالم كله بحيث تكون هناك قوة عالمية واحدة
ومرجعية كونية واحدة وإنسان عالمي واحد، وتنهار كل الحدود والقيود
والحصون أمام هذه القوة العالمية الجديدة والمنفردة بحيث تصبح إرادتها
ورغباتها ومصالحها مسلّماً بها ومرّحباً بقدومها بلا أي عوائق من الدين
أو اللغة أو اللون أو الجنس أو القومية أو الثقافة، أي أن المرجعية
الكونية الجديدة هي بديل لكل ما عرفته الأمم والأجناس البشرية من
ثقافات وتاريخ وصراعات وأفكار، بحيث يغدو كل هذا ذكرى بلا قيمة ولا
معنى، وتصبح القيمة والمعنى في المرجعية الكونية البديلة والجديدة التي
يتحول البشر جميعاً فيها عبيداً للنظام العالمي الجديد.
كما أن خطر هذه الأيدلوجية البديلة يتمثل أيضاً في اقتحام مناطق كان
يُنظر إليها باعتبارها خاصة أو شخصية وينظم أوضاعها بشكل أساسي الدين
والتقاليد والأعراف المحلية والثقافات الخاصة، أي أن الاقتحام والهدم
لهذه الأيدلوجية ينال مناطق متصلة بالهوية والثقافة والوجود وهي محور
الكيان الإنساني والوجود البشري، ويقف وراء هذه الأيدلوجية فكر فاسد
وهمجي يريد أن يجعل من الأخلاق فوضى ومن الفاحشة شيوعاً وذيوعاً.
وتستمد النسوية الجديدة جذورها الفكرية من الماركسية الحديثة (حيث
تعتبر أن خطأ الماركسية القديمة هو اللجوء إلى الأساليب الاقتصادية
لبناء مجتمع لا طبقي، بينما اللجوء إلى الأساليب الاجتماعية هو السبيل
الوحيد لمجتمع خال من الطبقات والميول الطبقية، وتمثل (الأسرة)
والأمومة في نظر الماركسية الحديثة السبب وراء نظام طبقي جنسي يقهر
المرأة لا يرجع إلا لدورها في الحمل والأمومة.
وإذا كانت السنن الكونية – الطبيعية عندهم – هي التي اقتضت هذا
الاختلاف البيولوجي فلا بُدّ من الثورة على هذه السنن الطبيعية والتخلص
منها بحيث تصبح الفروق البيولوجية بين الرجل والمرأة فروقاً اجتماعية
متصلة بالأدوار التي يؤديها كل من الرجل والمرأة وليست متصلة بالخواص
البيولوجية لكل منهما، ومن ثم فإذا قام الرجل بوظيفة المرأة وقامت
المرأة بوظيفة الرجل فإنه لن يكون هناك ذكر وأنثى بل نوع ثالث بينهما،
وهذا النوع هو الذي سيحدد طبيعة دوره في الحياة بحيث يجوز للأنثى أن
تمارس دور الذكر والعكس، وبحيث لا تكون هناك أسرة بالمعنى التقليدي ولا
أبناء ولا رجل ولا امرأة، وإنما أسر جديدة شاذة وأبناء نتاج للتلقيح
الصناعي.
فأي فكر هدّام ذلك الذي تتبناه النسوية الجديدة؟ وأي دور تقوم به
المرأة بدل بناء المجتمع؟ والذي يمكننا قوله: يجب على البشرية كلها
الحذر من هذه الأيدلوجيات المدمرة بل وعلى المرأة نفسها أن تفكر ماذا
يحل بها لو جردت من أنوثتها وعاطفتها وحنانها وأمومتها التي تفتخر بها
ولا تتخلى عنها بملك الدنيا كلها، وكما أنه هناك نساء متبجحات أو يدعين
الثقافة والانفتاح وهن لا حظ لهن من الثقافة الإنسانية شيئاً، فهناك
أيضاً نساء عاقلات ومفكرات ممن لهن اتجاهات راقية وبناءة تدين هذه
الأيدلوجيات فعلى الأسوياء من الرجال والنساء الوقوف بكل جرأة في وجه
هذه الأفكار فسرعان ما يسقط الفاسد ويزهق الباطل ويتلاشى الزبد الفارغ
من الأفكار. |