عن الإمام علي (عليه السلام): (من تساوى
يوماه فهو مغبون، ومن كان أمسه أفضل من يومه فهو ملعون).
ليس الاهتمام بالمستقبل أمراً طارئاً أو غريباً وإنما هو مغروس في
الطبيعة الإنسانية، وقد لازم الإنسان منذ نشأته وخلال تاريخه، بل لا بد
من القول إنه إحدى الميزات الأساسية التي يتصف بها الإنسان إضافة إلى
ميزة النطق والعقل.
وهذه الميزة في الملَكة التي تشهد إلى الزمن وما يجري فيه، وتوزع
شعوره بين ماضيه وحاضره ومستقبله. ولو عدنا إلى البدء، لوجدنا أن ظهور
إنسانية الإنسان مرتبط ببدء إحساسه بما حدث وتذكره إياه، وبتساؤله عما
سيحدث والتطلع إليه وترقبه.
إن الإنسان لا شك (حيوان ناطق) ولكنه كذلك حيوان تاريخي بأعرق معاني
هذه الكلمة وأشملها، إي بإحساسه الأصيل بمجرى الزمن وبما يحتويه الزمن
من أحداث وخبرات ومتطلبات، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
على أن الحاضر، على أهميته ليس في الواقع سوى برهة تستقر آناً ثم لا
تلبث أن تنضم إلى سوابقها، ولما كانت هذه البرهة الحياتية هي في الواقع
نتيجة لما حدث ولتصور الإنسان لما سيحدث، فإن الإنسان هو بالفعل ملتقى
الماضي والمستقبل ينفعل بهما ويفعل فيهما. من جهة يلتفت إلى ما عبر
مستذكراً محيياً مستلهماً ومن جهة يتطلع إلى ما سيطل حالماً متخيلاً أو
مستكشفاً جاداً في تحقيق ما يصبو إليه.
فهو حيثما وجد وخلال مراحل وجوده، كائن متذكر ومتوقع معاً، ومستوى
إنسانيته وقدر نتاجه وقيمة أثره تتوقف على نوع تذكره وصفة توقعه، وعلى
كيفية تواصلهما وتفاعلهما في تكوين الحاضر وتطوير الحياة.
على أن التلفت إلى ما كان والتطلع إلى ما سيكون وإن كانا أصيلين في
الإنسان وملازمين له خلال مراحل تطوره، فإنهما يختلفان قوة وشأناً
باختلاف هذه المراحل، ففي بعضها يغلب على الأفراد والشعوب الحنين إلى
الماضي والتغني به والعيش في كنفه أو تحت وطأة سحره، فتراهم يستسلمون
إليه أو يحاولون إعادته، وتراه يكيف أحاسيسهم وأفكارهم وتصرفاتهم،
ويشدهم على نطاقه فلا يكادون يتجاوزون هذا النطاق أو يشعرون به لحاجة
إلى ذلك.
وفي مراحل أخرى، يقوى على العكس، تشوّف المستقبل فتمتد الرؤية وتثور
الرغبة في استكشاف المجهول، وتنبعث روح المغامرة والمجازفة، وينطلق
الأفراد والشعوب إلى آفاق جديدة في مواطن الشعور والفكر والعمل.
والذي يهمنا في الأمر هو الاهتمام المستقبلي في الإسلام والذي مبعثه
الإيمان بدين إلهي يؤكد قدرة الله الأحد ومشيئته وحكمه، والملاحظ أن
الحكم على الإسلام بأنه دين سماوي كبقية الأديان اهتمامه أخروي فقط كما
عليه الباحثون الحداثيون حيث يقولون: (ومع أن الإسلام كيان متكامل يعني
بالدنيا وبالآخرة، وتتضمن قواعده المعاملات إلى جانب العقائد والعبادات،
وتنظم شريعته سلوك الفرد والجماعة في شؤونهم الحياتية المختلفة، فإن
مقاييس قيمة النهائية تبقى (أخروية) إذ إن هذه الحياة الدنيا – على
خطورتها – ليست سوى فترة زائلة فانية أو جسر يعبره البشر إلى الحياة
الباقية)، لكن الذي نعلمه أن الإسلام يؤكد على الآخرة والنعيم والجنة
وفي مقابلة العذاب والشقاء لما في ذلك من تهذيب للنفس الإنساني ولما
ذكرناه سابقاً من أن الاعتقاد بالعقاب والجزاء له تأثيره المباشر على
سلوك الفرد وسلامته وفساده، بل كل سلوكياته مرتبط بهذا الاعتقاد
ارتباطاً وثيقاً، ولكن في نفس الوقت لا يقلل من أهمية الدنيا أبداً،
كما هو مروي عن أحد المعصومين (عليهم السلام)
(ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه).
ثم التحولات الحاصلة للعصر الحديث والتي هي المميزات الأساسية له لم
تكن بعيدة عن توجيهات الدين الإسلامي بل هي من الصميميات في الدين
وإرشادات أهل البيت (عليهم السلام).
(فالتحول الأول) هو التحول إلى العالم الدنيوي وإلى الاعتقاد
بأهميته الذاتية وبقيمة الحياة فيه، فلم يعد هذا العالم مجرد وسيلة إلى
غاية، أو معبراً مؤقتاً إلى موئل البقاء والقرار، بل غدا أهلاً لأن
يطلبه الإنسان لذاته ولأن يحقق مكاسبه ويستمتع ببدائعه وروائعه. بمعنى
يريدون أن يجعلوا الأرض نفسها جنة وفيها الحياة والنشاط والاستمتاع.
(والتحول الثاني) هو التحول إلى الإنسان، والتركيز عليه فرداً
وجماعة، وذلك من ناحيتين: الإنسان عاملاً فاعلاً، والإنسان غاية
مستهدفة.
فمن الناحية الأولى أن أحداث هذا العالم ليست كلها نتيجة مشيئة
إلهية مسيرة أو قوى خفية محتمة، بل هي في الأكثر حصيلة إرادة الإنسان
وقدرته وفعله، فهو صانع نفسه وحياته وبيئته، وهو قادر على هذا كله إذا
ما حرر من قيوده وكذلك المجموعة قادرة، والناحية الثانية أن الإنسان
أصبح أول هدف يجب أن يسعى إليه وأجزل مكسب يمكن أن يحققه، والإنسان بات
أثمن ما في هذا الوجود ولأجل تحريره وترقيته وإسعاده يلزم أن تبذل
الجهود.
(التحول الثالث) وهو الأهم في التحول من الإيمان بالوحي إلى الإيمان
بالعقل
أما بالنسبة للتحول الأول ففي الإسلام شواهد كثيرة تدل على الأهمية
الكبيرة للحياة الدنيا وأنه مزرعة الآخرة، فعن الإمام المعصوم (عليه
السلام)
(أعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً وأعمل لآخرتك كأنك تموت غدا)
ففي الإسلام تهذيب وسطي بين الدنيا والآخرة والاتجاه الأوحد ثبت في
التاريخ فشله الذريع سواء كان من متخلفي المتدينين والجهال منهم أو من
متسرعي العصر الحديث.
أما بالنسبة للتحول الثاني: فإن الإنسان هو المركز الأساسي بل هو
النواة التي تدور حوله جميع الأحكام والمعاملات والعبادات في الإسلام،
بل مصب جميع الآيات إلى احترام الإنسان وتعظيمه حيث يقول تعالى (ولقد
كرمنا بني آدم وحملناه في البحر والبحر..) وقوله تعالى (ولقد خلقنا
الإنسان في أحسن تقويم...)
وأيضاً من ناحية أنه هو صانع قدره ومستقبله فمسير أهل البيت من
المسلمين هو قوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم) وأن الإنسان لا ينال جزاءه إلا بعمله، وقيمة كل امرء ما يحسنه.
أما في التحول الثالث: فمنزلة العقل لا يخفى دوره الكبير عند أتباع
أهل البيت والإمام جعفر الصادق (عليه السلام) حيث جعل العقل أحد الأدلة
الأربعة للاستدلال الفقهي، وكذلك الروايات والآيات الكثيرة في التفكر
والتعقل – فعن الإمام الكاظم (عليه السلام)
إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل
والأنبياء والأئمة (عليهم السلام) وأما الباطنة فالعقول.
وعن الإمام علي (عليه السلام) (العقل أصل العلم وداعية الفهم)
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (العقل حفظ التجارب وخير ما
جربت ما وعظك)
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) (على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه،
مقبلاً على شأنه حافظاً لسانه).
وغيرها من الروايات الدالة على تعظيم العقل وإعطاءه دوره الحقيقي
وعدم إهماله وتركه ليركد ويخفت نوره.
فلا مجال لاتهام الإسلام والمسلمين أجمعهم بتعطيل دور العقل لمجرد
أن جماعة من جهالهم فعلوا ذلك. |