يحاول البعض مسح ذاكرة العراقيين والتقليل من حجم المأساة التي
تعرضوا لها في أقبية السلطة الطائفية..
ما أن سقط صدام حتى بانت بشاعة جرائمه... مئات المقابر الجماعية التي
غيب الحقد الطائفي فيها ملا يين المسلمين الشيعة والأكراد دون تفريق..
سجون ومعتقلات وسراديب تحت الأرض شهدت أنات الملايين الذين دخلوها
فخرجوا منها إما إلى المقابر الجماعية وإما إلى المنافي في العراق وفي
خارجه.. لماذا حاول البعض أن يغلق ملفات الموت والتعذيب بحجة أنها تعرض
الوحدة الوطنية للخطر؟ وهل تعني الوحدة الوطنية تجاوز الجريمة أم رصدها
وشجبها والعمل على عدم تكرارها؟.
وهل يندرج في إطار الوحدة الوطنية التأمر على شيعة العراق بالتعاون مع
الجامعة العربية؟ أم الوحدة الوطنية تعني انفتاح العراقيين على بعضهم
دون بغض وتآمر وضغينة؟..
في هذه السلسلة نحاول فتح ملفات أراد لها آخرون أن تغلق، هادفين
استذكار الألم كي نعزز الأمل ونحث على صنع عراق ديمقراطي جديد لا مكان
فيه للظم الطائفي أو القومي أو العنصري، فمن أجل الجميع دعونا نقرأ
تاريخاً قريباً كتبته عظام اختلطت ببعضها تحت أسنان الشفلات المهووسة
وهي تهيل التراب على مئات الآلاف من الأجساد الطرية لأحبة من مختلف
الأعمار.. آلة الموت لم تستثن الرضع ولم تعف النساء والصبيان والشباب..
فالكل مشمولون لأن من يضغط على أزرارها حمل من الحقد ما أفقده بصره
وبصيرته..
في هذه السلسلة سنقرأ شهادات عديدة لرجال، وربما نساء، نجوا من مطحنة
السلطة الطائفية.. وهي بالطبع جزء يسير من الحقيقة، فبعضهم يستحي أن
يروي كل ما تعرض له أو رأه، وآخرون يعزفون عن الحديث لا سيما
النساء ..
الشاهد الأول
ناجح فرج محمد خشان (أبو حيدر) مواليد النجف 1963 ألقي
القبض عليه في 11\12\1979 ... لم يرتكب ذنباً يستحق الاعتقال سوى أنه
يصلي ويصوم ويحضر محاضرات دينية وفكرية في جلسة يحضرها
36 شاباً من
مختلف الأعمار : (قبل اعتقالي كنت أحد طلبة الشهيد الأول لي علاقات
اجتماعية مع أقراني الشباب ولهم معي صلات طيبة ، تعلم أن الصبا زهرة
العمر لذلك كانت لنا آمال وطموحات وكنا نرى العالم أجمل.. هكذا رأيناه
في أحلامنا وتمنياتنا ولم ندرك ما يضمره حزب البعث لنا..).
لم يهدر ناجح فرج محمد وقته بلعب الكرة والألعاب الشعبية التي كان يلهو بها
أقرانه، بل اختار طريقاً آخر ينمي فيه عقله وإدراكه مستفيداً من رجل
شهد له العالم بالعلم والفكر( الشهيد السعيد محمد باقر الصدر) وكان هذا
هو ذنبه الذي حاسبه عليه البعثيين أشد حساب!!
(نتحدث عن الدين ونلتقي بالجوامع .. السيد الشهيد أراد أن يربي جيلاً
يتحمل المسؤولية وكل رجال الدين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي لم يكن
لهم دور آخر.. إنهم مصلحون يريدون للمجتمع ما يريده الله له، هو لم
يحمل السلاح ــ يقصد الشهيد محمد باقر الصدر ــ ولم يدع لحمله، وحين
اعتقلوه لم يدافع عن نفسه إلا بالخطب والنداءات).
نشأ (ناجح) في أزقة الكاظمية، علّمته جدته لأمه الصلاة وكانت تطارده
يومياً كي يؤديها بأوقاتها حتى جعلتها سلوكاً معتاداً لديه، : ( غالباً
ما لوت أذني لأنني لم أؤد الصلاة في وقتها ) .
إنه يحضر كأخرين محاضرات المرحوم الشيخ الوائلي، وفي البيت أسهم
عمّه الذي قتلته السلطة في بثه الوعي الديني، فضلاً عن أنه قضى أوقات
طويلة ينهل من مكتبته .. كل الأسر الملتزمة في العالم الإسلامي تريد
لأبنائها أن ينشأوا أصحاء صلحاء، وتريد تنشئتهم على قيم فاضلة، ولكن
سلطة البعث لم ترد للعراقيين إلا النشوء على فكر لا يؤمنون به وعلى
أخلاق تتعارض مع أخلاقهم وعقائدهم الدينية، ولم تحفظ لهم حقهم في
دينهم وعقيدتهم وثقافته كفلته الشرائع السماوية والمواثيق والأعراف
والمقررات الدولية، ولكن البعثيين ضربوا بها عرض الحائط..
انتقل شاهدنا الأول إلى النجف عام 1978 ولم يتجاوز عمره 16 سنة استقر
في قضاء المناذرة وتحديداً في منطقة ابي صخير .. ولكن جدته لأمه لم
تتركه، فأوصلته إلى السيد الشهيد محمد باقر الصدر عن طريق وكيل له.. لم
يعد يذكر إسم ذاك الوكيل، ولكنه يذكر أنه ترك العراق مضطراً بعد ما حصل
للسيد الصدر..
اتصلت جدته العلوية بالوكيل الذي يبدو أنها تعرفه وطلبت منه أن يكون
ناجح من الشباب الذين ينهلون من علم السيد الصدر، ولم يتأخر وكيل السيد
الصدر بل سارع لضمه إلى مجموعة تحضر كل يوم بعد صلاتي المغرب والعشاء
درساً فقهياً يلقيه السيد الصدر عند الساعة التاسعة في جامع الجوهرجي
... لم يشعر ناجح أنه غريباً عن هذا الرجل الذي يطل عليه كل يوم
ويقول : ( كنت أرى السيد مثل والدي فهو يصل إلى أعماق نفسي بكلماته، لا
تتوقع حجم الروح التي كان يبثثناها إنه ينمي قابليتك ويجعلك ترى
دورك وتقدر حجم آدميتك..).
لم تكن السلطة بعيدة عن هذا الرجل الذي بدأ يوجه فكر الناس نحو شاطئ
محظور.. فراحت تراقبه وتتابع حركته وتحصي الرائحين والغادين من زواره
ومحبيه.. فكل شخص يلتقي بالسيد محمد باقر الصدر وراءه مخبر وخلفه عيون
ترصد منزله ومكان عمله.. اندسوا بينهم، راقبوا هواتفهم وجمعوا كل
المعلومات عنهم..
و في يوم الثلاثاء وبينما كان شاهدنا يصلي المغرب، وكما هو معتاد ينتظر
درسه الفقهي في حلقة السيد الصدر تلك، القي القبض عليه من قبل السلطة..
اقتادوه وكل المجموعة وسط موجة من الضرب والكلمات النابية.. في مديرية
أمن النجف ألح المحققون والجلادون على انتزاع اعتراف سياسي منه:(
قل لنا ما هي صلتك بالسيد الصدر لماذا تجتمعون حوله ماذا يقول لكم..الخ
).
لم ينفع مع الجلادين ما ردده( ناجح فرج محمد)، ولم يقتنعوا أن علاقته
بالرجل دينية فقط، فالذي وشى به شخص ( لا تكذبه السلطة)... استخدموا
معه ألواناً مختلفة من أساليب التعذيب .. علقوه بالسقف وخلعوا يديه..
صبوا عليه الماء الساخن فانتزعوا جلده.. صبوا عليه الماء البارد والملح
بعد وجبة عذاب يتقرح لها جسده.. أطفأوا السكائر بجروحه وأماكن حساسة من
جسده ... كان يصرخ من هول العذاب: ( دخيل الله.. دخيل الحسين.. دخيل
العباس).. ولم يكن للجلادين دين سوى الحقد .. إنهم وبلا رحمة.. يحركهم
حقد طائفي اسود .. من يستغيث بالله العلي العظيم جاءوه بـ(الله) ــ
وحاشا لله أن يدنسه ــ هؤلاء.. يدخلون على المستغيث جلاد مخمور
يقولون له : ( إنه الله) فيجلده بعنف.. وبعد كل توسل يبديه المعتقل
بعبد صالح من عباد الله ، يحضر لغرفة التعذيب جلاد مخمور فيقول له : (
أنا الحسين، أو أنا العباس) ويبدأ معه موجة جديدة من التعذيب ..
أبى الوشاة والجلادون (عباس التميمي عضو اللجنة الاتحادية في مدرسة
الخليج المسائية ومفوض منذر والمجرم ناهي بعيوي الذي آذى كثير من
العوائل والنقيب عبيد مسؤول امن المناذرة) أبوا إلا أن يذيقوا
شاهدنا أشكالا من التعذيب..
بشاعة في مديرية الأمن العامة
بعد أربعة أشهر من العذاب في أمن النجف نقلوه إلى مديرية الأمن
العامة في بغداد.. كان محمولاً على نقالة فجسده أضحى شبه مشلول من فرط
ما مارسوه بحقه من تعذيب، حتى أن أجزاء من جلده علقت بمكانه حين
نقلوه، وفقد القدرة على تحريك يده اليمنى بعد ما قلعوا أضافره ولكثرة
ما علقوه في سقف غرفة التعذيب..
وضعوه في زنزانة مشتركة ضمت العديد من السجناء، كان بينهم فتاة اسمها (إيمان)
من أهالي مدينة الكوت قطع الجلادون أحد ثدييها بعد أن دافعت عن نفسها
حين حاولوا اغتصابها..
ويواصل شاهدنا سرد بعض مشاهداته ويعزف عن ذكر مشاهدات أخرى رغم إلحاحنا
عليه..
وفي يوم آخر من أيام العذاب في مديرية الأمن العامة أتوا بزوجة
أحد الأشخاص( ما زال على قيد الحياة نعزف عن ذكر اسمه لصعوبة الموقف)
من التنظيمات الإسلامية رفض التهم الموجهة إليه .. كانوا قد هددوه
بأنهم سيأتون بزوجته إذا لم يعترف، وبالفعل أتوا بها وابنه الرضيع في
حضنها.. طلبوا منه أن يعترف وإلا (سينتهكون عرضه).. رفض الرجل التهم
الموجهة إليه.. الأمر الذي أغضب الجلادين فاختطف أحدهم الرضيع من حضن
أمه ليضرب به عرض الحائط .. مات الصبي بين أمه وأبيه وهما لا يستطيعان
شيئاً .. وبينما الأم مصعوقة، هم جلاد آخر بالاعتداء عليها أمام زوجها
ومجموعة من السجناء كانوا يشهدون الحدث المرعب.. لم يكن بوسع المرأة
الضعيفة إلا أن تضرب رأسها بقوة بجدار إسمنتي قريب.. ضربته مرة وثانية
وثالثة، فتدفق الدم من أنفها وفمها.. التفت ( الزاني) لسيده، كي يعلمه
أن المرأة فارقت الحياة، وبحقد غريب يأمره: ( إلى جهنم.. كلب ومات،
إرموها في الخارج)..
ربما يستغرب كثيرون هذه القسوة ، وربما يكذبها أولئك الذين احتجوا على
القوات الأمريكية المحتلة لأنها منعت السجناء من دخول الحمام لمدة
أسبوع.. ولكن بإمكان من يبحث عن الحقيقة أن يزور الصفحة الرئيسية لموقع
صوت العراق ليجد فيلما يصور وجبة من وجبات التعذيب.. لن يتمالك أي حر
نفسه وهو يرى العذاب الذي يفقد شبابا بأعمار مختلفة وعيهم.. وهذه وصلة
الموقع: (www.sotaliraq.com) ..
ولنا لقاء في مقال قادم وقصة جديدة.. |