تطرقنا في بحث العادة وتأثيرها وسبل ترويضها ضمن مجال العقل والفكر
الإنساني السليم أنه في الهروب من سيطرة العادة وكبتها الخانق للدوافع
المتحررة قد ننساق إلى الطرف الآخر وهو عالم الدافع المتحرر من كل قيد،
والسائر في بربرية لا يعترف بقانون، أو توازن بل يزيد في انحرافه
وفساده، ويظهر المخاوف بشكل أجلى إذا ما أصبح هذا الانطلاق الواسع
والاندفاع الكبير، اللامحدود في الطريق المنحرف عادةً بمرور الوقت
وتتجذر بشكل تقاليد وأعراف لا يمكن الحيد عنها أو إهمالها أو الخروج
عليها.
والتي منها رفض كل ما هو ديني، والمبادرة إلى أسئلة مثل: هل للإنسان
بعد الموت حياة أخرى؟
والذي نبهنا إلى حيوية مسألة الحياة بعد الموت وأنه عليها تتوقف
استقامة سلوك الإنسان الخلقي، أو اعوجاجه.
فالذي يعتقد أن الدنيا هي الحيوان، ولا حياة له بعد الموت، كان
سلوكه الخلقي مغاير لسلوك الذي يحسب أنه بعد مفارقته لهذه الدنيا،
سيفضي إلى حياة يحاسب فيها على كل صغير وكبير من أعماله التي قدمها في
حياته الحاضرة، وأن حُسن عاقبته فيها أو سوئها إنما يتوقف على حُسن
أعماله أو سوئها في هذه الدنيا.
وكذلك كل عقيدة يكون عليها الإنسان عن مصيره بعد الموت، لها تأثير
بالغ، يصل في كل ما يأتي به في حياته من الأعمال والأخلاق، وهو لا
يتقدم في ميدان العمل خطوة إلا ويكون تعين جهتها متوقفاً على: هل يأتي
بكل ما يأتي به من الأعمال في حياته الدنيا على أنها هي حياته الأولى
والآخرة، وليس له ولا عليه شيء بعد الموت، أم أنه سيفضي بعد موته إلى
حياة سرمدية أخرى، ويرى فيها نتائجها ويقطف ثمارها حتماً؟
فهو إن كان يتقدم إلى جهة في الصورة الأولى، يتقدم إلى جهة تخالفها
تماماً في الصورة الأخرى، ومن هنا تأتي أهمية رابطة العمل والجزاء.
إذ من المعلوم أن الأوامر والنواهي العقلائية بحسب عرفهم تستعقب
آثاراً جميلة حسنة على امتثالها وهي الثواب، وآثاراً سيئة على مخالفتها
والتمرد فيها تسمى عقاباً، وأن ذلك كالحيلة يحتالون بها إلى العمل بها،
فجعلهم الجزاء الحسن للامتثال إنما هو ليكون مشوقاً للعامل، والجزاء
السيء على المخالفة ليكون العامل على خوف وحذر من التمرد.
وهذه الرابطة الجعلية بين العمل والجزاء من المجتمع هو لحاجة
المجتمع إلى العمل ليستفيدوا منه ويرفعوا به الحاجة ويسدوا به الخلة،
ولذلك تراهم إذا استغنوا وارتفعت حاجتهم إلى العمل ساهلوا في الوفاء
على ما تعاهدوا عليه من ثواب وعقاب فهذه الرابطة من القوانين الخلاّقة
في المجتمع والتي تنتج العدل الاجتماعي في الحفاظ على المصالح والمنافع
المادية والمعنوية وإرساء الأمن والسلامة.
وحيث كانت القوانين والأحكام الوضعية قابلة للخرق احتاجت إلى تتميم
تأثيرها بوضع أحكام مقررة أخرى في المجازاة لتكون هي الحافظة لحماها عن
تعدي الأفراد المتهوسين وتساهل الآخرين، ولذلك كلما قويت الحكومة أياً
كانت على إجراء مقررات الجزاء لم يتوقف المجتمع في سيره ولا ضل سائره
عن طريقه ومقصده، وكلما ضعفت أشتد الهرج والمرج في داخله وانحرف عن
مسيره.
ولما كانت هذه الأحكام في الدنيا قابلة للتبديل والتحريف ويمكن
التخلص عن الجزاء بشفاعة أو رشوة أو بشيء من الحيل والدسائس – أتى أمر
الله فلا بد من الاستجابة إذا أردنا النجاة والسلامة.
فيقول سبحانه وتعالى، إن الساعة آتية لا ريب فيها.
وأنه تعالى سيحي فيه كل من ولد ومات منذ أول الخلق إلى يوم القيامة
من أبناء البشر، ويحشرهم جميعاً بين يديه في آن واحد، وهناك سيجد كل
فرد، وكل أمة، والإنسانية بقضها وقضيضها، ما قدمت من الأعمال في الحياة
الدنيا، مسجلاً محفوظاً بدون نقص ولا خطأ ولا هفوة، وهناك سيجد الإنسان
كل صغير أو كبير من أعماله بكل ما طال من سلسلة رد فعله في الدنيا،
وتشهد له أو عليه جميع السلالات والأجيال التي تأثرت به إلى حد ما كما
ستشهد له أو عليه كل ذرة من ذرات الأرض تركت عليها أفعاله وأقواله أثراً
من الآثار، وكل شيء ستشهد له أو عليه حسب أعماله.
ثم سيحكم عليه أحكم الحاكمين جل شأنه بكل عدل، ويجازيه حسب أعماله
وشهادة الشاهدين بما يستحقه من النعيم أو العذاب اللامحدودان. وليس
علمهما إلا عند الله ففيهما ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
اللهم أرزقنا جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة، وأصرف عنا جميع شر
الدنيا وشر الآخرة. |