لاجلال في أن تغيير الاشخاص بالتربية والدين هو
شرط جوهري لإحداث أي اصلاح مجتمعي مرغوب فيه. وذلك من وجهين: غاية هذا
الاصلاح، ووسيلته.
الغاية هي البشر بالذات، هي تحقيق كرامتهم
المنبثقة من تحررهم من قيود الطبيعة وقيود الغير وقيود الذات.
فلا معنى للنظام إذا لم يؤد إلى ترقية الأشخاص
الذين يتألف منهم، وإذا لم يحقق لهم حظوظا من الكرامة الذاتية والرقي
الإنساني.
إن قيمة أي نظام تتحدد بهذا الحد وتقاس بهذا
المقياس، هذا من حيث الغاية، أما من حث الوسيلة، فإن الأشخاص هم الذين
يصدر عنهم، آخر الأمر.
التغيير والتبديل، إن الآلة وسيلة فعالة للتغيير
المادي والإنساني، ولكن وراء الآلة ثمة الإنسان الذي تصورها واصطنعها،
والذي يستعملها، وأثر الآلة حجمه ونوعه وخيره وشره، تابع لنوع الإنسان
المتصور والصانع والمستعمل.
ينبغي لنا أن نذكر أثر كل من الدين والتربية على
حدة
إن للدين آثاره الجمة نبرز منها اثنين:
الأول: إصلاح النقوس ذاتها بما يثير الدين فيها
من تطلعات إلى المثل العليا، وبما ينميه من فضائل الإيمان والصدق
والمحبة والتضحية، وبما يبعثه من جهد للتحرر من أهواء الذات وشهواتها
وأطماعها، والتاريخ مليء بالشواهد على القمم الإنسانية التي ارتقى
إليها أفراد من مختلف المجتمعات بفضل جهادهم النفسي الداخلي وما أحرزوا
في ارتقائهم من قيم الصلاح والفضيلة والقداسة، التي ما زالت منارا
للإنسانية ومصدرا لقلقها وإنتفاضها وتحررها ورمزا لما يستطيع الإنسان
أن يكون، بل لما يجب أن يكون ولئن لم يكن باستطاعة الناس جميعا أن
يصعدوا إلى هذه القمم، فإن ما يحدثه الدين في نفوسهم من تهذيب وتحرير
وما يهيئه لهم من صلاح ذاتي هو كسب لنضال مجتمعاتهم ونضال الإنسانية
جمعاء في سبيل التغيير والتقدم.
أما الأثر الإيحابي(الثاني): للدين فهو أن،
بتوكيده الأخوة الإنسانية وبتوجيهه النظر والاهتمام إلى الغير بدلا من
الذات، تعدى الإصلاح الشخصي إلى الإصلاح المجتمعي
ذلك أن الإيثار للغير، ولا سيما المحرومين منهم
كان مطلبا جوهريا من مطالب الدعوات الدينية، وحافزا قويا على إنشاء ذلك
الحشد الضخم من الهيئات والمؤسسات الإجتماعية التي رعتها الأديان
المختلفة للعناية بالفقير والمريض والجاهل وغيرهم من المحرومين.
ومهما نحاول في هذه الأيام أن نصرف اهتمامنا عن
هذه المؤسسات لنلقي المهمة التي كانت تقوم بها على عاتق الدولة، فإننا
لا نستطيع أن ننكر الخدمات الجليلة التي صدرت عنها خلال التاريخ سواء
في الإصلاح الاجتماعي ذاته أو في إيقاظ الضمائر الإنسانية لضرورته
وكماله ونقص في مؤسسات الدولة.
أما التربية - بمعناها الشامل لكل السبل
والوسائل التي تحدث بها توعية الأذهان والعقول في داخل المؤسسات
التربوية التقليدية أو في خارجها كالكتب والصحف والإذاعة والتلفزيون
وسائر وسائل الإعلام وكالجهود التي يبذلها المفكرون والأدباء والهيئات
السياسية والدينية والاجتماعية وغيرها - فإن لها أثراً إيجابياً مزدوجاً
مشابهاً لأثر الدين، فهي من ناحية تصلح الأشخاص بتحريرهم من الوهم
والجهل، وبتزويدهم بالملكات العقلية والفنية والخلقية ولتحري الحقيقة
وتطبيقها، وبتنمية طاقاتهم عامة لإحداث التغيير المرجو، هذا من ناحية
ومن ناحية ثانية، فإن التربية بتفتيحها للعقل وتنويرها للذهن تكشف
للمرء عورات مجتمعه والمجتمع الإنساني عامة وما يشوبها من مفاسد وما
يقوم فيهما من قهر وظلم وعدوان. هذا هي الآثار الإيجابية التي يحدثها
الدين والتربية في التغيير الإصلاحي، أما الأعراض التي تنتابها عندما
يتحولان عن مقاصدهما الأصلية كما في قوله تعالى (أفمن اتخذ إلهه هواه...).
وكذلك في التربية عندما تستخدم في المصلحة
الشخصية وأهواء النفس فلا ريب عندها أن يحيد الإصلاح ليحل محله الفساد
والدمار والهلاك.
وحبذا لو أجتمع الدين والتربية واستفيد منهما
بموازاة الآخر دون تغييب الآخر وإهماله فإنه حينئذ تكون النتائج أوفر
حظاً وأسخن عطاءً للإنسانية. |