لا أحد يدري إلى متى سيظل تداول ما يجود به
التراث الإنساني من حكايات شعبية قديمة وغيرها إذا ما تزال حالة
الاستئناس بالاستشهاد بها لما تضمنته من الوعظ والعبر والدروس الصالحة
لكل زمان.
والتراث الشعبي المتوارث جيل عن جيل فيه من
التنوع ما يغني للتعريف به إذ هو شامل المجالات على وجه العموم إلا أن
الجانب الأدبي فيه هو موضع المثار الأكثر اهتماماً لدى الجمهور فحكايات
(عنترة) و(ألف ليلة وليلة) و(علاء الدين والمصباح السحري) وغيرها كثير
غم قلة التركيز عليها بين أبناء الجيل المعاصر بسبب النجاح الخبيث الذي
أحرزته بعض القوى السياسية ضمن صراعاتها اللاعادلة بأكثر من طرف فيها
طيلة القرن العشرين الذي مضى إلى ذمة التاريخ وانعكاس ذلك على
المجتمعات التي أضحت تلهث لتدبير (لقمة العيش) في أغلب البلدان (متقدمة
ونامية) مما كان له الأثر في الابتعاد عن الأهتمام الاجتماعي المطلوب
بسبب كثرة الانشغالات التي طوقت روح إنسان القرن المنصرم وباستثناءات
قليلة جداً.
وكأي محاكاة مع الوقائع الحالية فقد بقي الإنسان
المتطلع دوماً إلى الظفر بحياة راقية كـ(أمل) لكن ظروف بلده أحياناً لا
تجيز عبر وسائل الرقابة لديها أن يتناول الناس شيئاً عن تراثهم القديم
لو تم عرض فصول منه على شكل عمل فني (مسرحية مثلاً) تحسباً من أن يكون
فيها ما يرمز لما كان قد حدث قديماً ويحدث حالياً حيث يزخر التراث
الشعبي في جانبه الأدبي شاملاً تفكير الحيوان ومكائد الجن وإحرازات
الشيطان إضافة إلى توالي النوادر والسخريات من الجانب المظلم في الحياة
مما قد تعتبر ألغازاً المقصود منها هي الإثارة بـ(التلميح) لشخص ظالم
أو جهة باطلة فيكون التحسس من هذا العمل الفني وكأن إجازته للعرض فيه
من الاعتراف بتقبل الشتيمة للأوضاع الراهنة في بلد ما.
ولعل في لغة التوصيل في الحكايات الشعبية ما
يمكن أن تشير لذلك فعلاً فمعظم التراث الشعبي المتناقل بهذا الخصوص
يتناول موضوع الصراع الأزلي بين الإصالة الإنسانية والضحالة الشريرة،
فإذا كانت عبقرية نتاجات التراث الشعبي المتوارث قد نجحت في زمانها فإن
من الغريب أن التقدم العلمي والتكنولوجي الذي حقق مستوى أفضل في
الثقافة والتثقيف على المستوى العالمي عموماص قد زاد من هواجس من يدعون
بأن أشخاص ديمقراطيون وأن بلدانهم هي بلدان ديمقراطية لكنهم بذات الوقت
يتجرأون على الوقائع فيخافون من نصوص (مجرد نصوص) في مسرحية تتكلم عن
مكائد الشيطان وتخاويف الجن هذا في حين أن حكايات العشاق تكاد تكون
الوحيدة التي لا تنظر إليها أجهزة الرقابة الثقافية في العالم بعين
واحدة وهذا لا يعني أن الحكايات الكوميدية أي الضاحكة فإن تسبيبها
لإشاعة المرح بين الجمهور المشاهد أضحى من الأمور التي تخضع لأحكام
الرقابات أيضاً تحسباً من أن يكون بها مساس بأولي الأمر وهكذا فحتى
الشخصيات القديمة التي مر على تداول الحكايات عنها قرون عديدة أصبحت في
أحيان ممنوع من التذكير بها لكن ذاكرة المجتمعات بقيت أرقى من كل
الهوامش القابلة للإثارة المجردة.
إن في كتب التراث ذخائر من الحالات الإنسانية
ونقائضها والتي تقييمها البشرية بأنها من ثرواتها الفكرية الآبدة ولا
يجوز المساس بها حتى ليمكن القول أن الكتب الجديرة فيها بالاهتمام ما
لا يتعدى عدد أصابع اليد الواحدة وهي ميزة لكل كتاب منها لكن شهرة أي
كتاب جعلت إعادة طبعه لآلاف المرات ككتاب (كليلة ودمنة) وغيره.
ومن بين صفحات التراث الإيجابية إبراز صفات
الجود والشيمة والإيثار عند بعض الشخصيات التي تقدم أدوارها كـ(رموز)
لكل الصفات الحميدة التي ينبغي أي فرد سوي (حاكماً كان أم محكوماً) أن
يحملها وتكون له نبراساً في الحياة فمثيل هذه الصفات عادة ما تدعو
للتجند بها، ولذا فالتراث الذي تقدم الإنسان المتكامل السوية الذي يعرف
سلفاً أنه ولد في الدنيا ليعيش فيها مرة واحدة ثم يموت يفكر أن يترك
أثراً طيباً فيها بين الناس بدل من أن تعاب ذكراه بعده بأي شائنة إلا
أن معصية الإنسان المقتدر نفوذاً أصبح عبر أجهزته ومرتزقته يستهدف
ذاكرة مجتمعه أيضاً فيلاحظ مثلاً أن (التأتأة) عند بعض الأفراد (في
الكلام ونطقه كما تنقل ذلك ليس حالة معبرة عن الإرباك فقط بل وعن
الاحتجاج أحياناً عن الواقع المرير الذي يلف بالإنسان المعاصر كي
يستفيق دارسوا التراث إلى ما ينبغي أن يكون وما لا يكون.
من الطبيعي جداً أن يظهر لنا التراث المنقول من
الآباء والأجداد القدامى كنه وخلاصات تجاربهم الحياتية والمعاشية
وعلائقها الاجتماعية والأرضيات التي كانت الدنيا تتحرك عليها (ولكن
بصيغة المبالغة) وهذا أمر طبيعي يقتضيه العمل الأدبي أو الفني الناجح
فمثلاً أن (الجاحظ) حين يقدم شخوصه في كتابه (البخلاء) على كون بعض
نماذجهم لهم من الطمع الجشوع ما يفوق الحد المعقول أو المفكر إنما هو
يسخر من هؤلاء وكأن لسان حاله يريد أن يلعنوهم الناس في وهم مازالوا
أحياء فالعالم في نظره مليحاً بنماذج البخلاء رغم أن (البخل) الذي كان
قديماً مقتصراً على وصف الشحيح في الكرم (إكرام ذاته وإكرام الآخرين..
لا الزمان المعاصر قد تطور فيه معنى (البخل) ليشمل الذي يريد احتكار
الحرية له شخصياً أو لجماعته فقط حتى لو كانت على كل مصالح مجتمعه وفي
ذاك أحد وجوه التعامل بـ(وباء) الشعور بالنقص. |