في عالمنا المعاصر الذي يكاد أن يخنق في صميمية
إنسانيته تكثر المآخذ على مسببي عذابات البشرية وما تتعرض له من
انتهاكات صارخة في أبسط حقوقها نتيجة لتدخلات السياسة الفضة في كل
شاردة وواردة في الحياة وتحكمها بكل وضوح تعسفي حتى في قطع الرزق عمن
تراه ذو وعي مقرون بموقف المدافع عن المظلومين ولعل مثل هذا الحال سارٍ
ومعمم في بلدان عديدة إن لم تكن في أغلب البلدان تبجحاً بالالتزام
بالمبادئ الإنسانية.
وعدم الإحساس بالمسؤولية على المستويات الرسمية
والشعبية أحياناً قد أضاع فرص السعي الطموح لتحقيق حالة من التكافل
الاجتماعي التي يناصر فيها الإنسان أخيه الإنسان على ما يتعرض له من
محن سواء في وسائل عيشه أو جراء تسرب الجهل لنفوس العديد من الناس
المحيطين به وهذه كلها مؤثرات قد تعزز حالة سلبية عند الشخصية فيتوه عن
طريق سويته ومن ثم يشعر بتفاهة هويته كلما ابتعد عن جذور فطرته التي
فطرها الله سبحانه وتعالى عليه حين مد جوارحه منذ بدء خلقه كي تتعمق
أنفاسه الاجتماعية مع بني جنسه.
صحيح أن عامل العِرق أو الأصل كما يسمى له أثر
في بناء الشخصية منذ نعومة أظفار المرء ومن ثم تكامل شخصيته بين عائلته
وأصدقائه ومجتمعه وبحسبما يقول النبي محمد (ص) (إن العِرق لدساس) لكن
لفطرة الإنسان التي جبله الله تعالى عليها لها الدور الحاسم الذي يلي
طبيعة العرق المؤثر في توجهات وتطلعات شخصية المرء أما التربية فيمكن
اعتبارها الحالة القابلة للتحقيق الإيجابي والسلبي في بناء شخصية
الإنسان أو هدمها إذا غالباً ما تأتي التربية بفعلها الشرير مثلاً بعد
إخماد فطرة الإنسان الخيرة في نفسه فمثلاً أن وضع الطفل في أجواء سوية
تنشئ منه إنسان سوياً والعكس صحيح أيضاً حيث ينشأ الطفل من خلال مؤثرات
المحيط الاجتماعي الرديء عليه ليجعله مجرماً أو سارقاً أو.. أو.. أو..
وبما أن للأبوين الدور الحاسم والفاعل لجعل
الطفل لديهما على أفضل ما يمكن أن يقدمه في الكبر كـ(نموذج شخصية ناجحة
أو فاشلة) لذا يلاحظ أن علماء النفس والتربية والاجتماع يركزون على
الدور العائلي في بناء وتكامل الشخصية الاجتماعية ضمن الخط العام الذي
يسود بكل مجتمع من حيث الالتزام بتقاليده واعرافه وعاداته الراقية
والناجعة والصالحة لإنسان يمكن أن يعتد بنفسه على كونه منتمي إلى
المجتمع الإنساني وبغض أن يكون هذا المجتمع هو ذاته مجتمعه المحلي أم
غيره فكم يحدثنا التاريخ مثلاً عن أولئك الذين انتموا إلى الدين
الإسلامي وهم كانوا متواجدون في أراضي وبلدان خارجة عن الأرض الإسلامية
لكنهم رغبوا بالإسلام وأضحوا من مريديه لأنهم عرفوا أن في الانتماء إلى
الإسلام تحقيق البناء الأفضل لشخصيتهم الاجتماعية، إن هؤلاء قد عرفوا
الدواء لأنفسهم قبل أن يقدم لهم الدواء.
ولما كانت للثقافة دوراً وللتثقيف الذاتي دوراً
أيضاً يمهد لهما أي تعليم سواء في جزئية البيت أو المدرسة فإن كسب
التجربة الكبرى لا تأتي إلا بعد أن يعرف الإنسان ما له وما عليه وما
للمجتمع وما عليه وهذه مسألة مهمة كي يرسم المرء عبر ذهنه معالم شخصيته
التي يعرف بها بين أقرانه وكلما كانت الفجوة مقلة في حياته فذاك يعني
انعكاساً للتماسك الأسري الذي هو عليه والذي سيؤدي حتماً إلى نموه
الثقافي في خطوات ثابتة نحو تحقيق ذاته وتكامل شخصيته الخادمة للمجتمع
الذي يخدمه.
إن حاضر ومستقبل الإنسان لهما دوماً الاولوية
بعد أن يشعر كل امرء أن الماضي من حياته غالباً ما يرقى ملفه إلى (الذكرى
والذكريات) لذا فإن في التواجد السوي وعدم الإحساس بالاغتراب والإنسان
وهو يعيش داخل وطنه معناه أن هناك حالة من الدينامية هي السائدة
بمجتمعه لذلك يلاحظ أن الباحثيين في العالم يركزون على الجانب النفسي
حتى غدت فروع علم النفس لا تحدها مناسبة أو حالة فبين فترة وأخرى يظهر
فرع جديد في علم النفس حتى أضحى هذا اليوم علم النفس يسمى (علوم النفس)
والتقدير منا بعد أن ظهر (علم النفس السياسي) وقبله (علم النفس الصناعي)
والآن (علم النفس الرياضي).. وإلى آخر القائمة.
ولا ريب من أن الأوضاع المعاشية المتردية هي
عامل سلبي يغلب اللغو الفارغ على الحوار المفيد! ويغير الولاء للمجتمع
إلى الإخلاص لمن يهيم بظلم على البلاد وسد الفراغ هو البديل عن العمل
الدؤوب وبذاك يصبح (الاتكيت المطلوب) نادراً في أي مجتمع يتطلع إلى
حياة أفضل.
إن الاتكيت الراقي والسلوك الحسن والانتماء
الأسري كلها عوامل تساعد على تكامل الصفات الإنسانية في الشخصية
الاجتماعية المنفتحة على وقائع الحياة والعيش بحلوها ومرها ويأتي دور
الإنتماء لوطن كريم بخيراته وسماحة أهله تجسيد لغريزة البقاء للشخصية
المتكاملة في مجتمع ينتمي إلى الروح والأخلاق أكثر من انتماؤه إلى
المادة وجمع المال. |