ما هو المعيار الأمثل لوصف مجتمع ما بـ(المجتمع
الحضاري) وهل تغير مفهوم الحضارة عما كان عليه منذ عهود خلت؟
أن طرح مثل هذه الأسئلة تدفع بالعقل إلى تذكر
صفحات التاريخ الماضي وما كان عليه وما كان ينبغي أن يكون عليه لو تم
التخيل أن الأمر متعلق أن تكون هناك نظرة حيادية تشكل ملكة ذاك العقل
كي يسترشد بها إلى ما كان فعلاً قد وقع وما رغب المجتمع المعني به.
وبديهي فإن الأجوبة على مكنونات الماضي قد تحدد
بـ(أجوبة الحاضر) التي ربما لم تكن تعبر عن الواقع الذي كان الناس في
ذاك الماضي، من هنا فإن فتح أبواب النقد الكتابي العلمي لما يطرح على
ساحات الفكر والثقافة هي مسألة لا غنى عنها فبمعرفة وجهات النظر
المحيطة عند الآخرين تغتنى تلك الأطروحات وترسوا على شاطئ الحقيقة
بأفضل ما يمكن أن يقتنع العقل بجدواها.
وبديهي أيضاً أن طبيعة الأسئلة المطروحة بين عهد
وعهد في نفس المجتمع هي غير ما يطرح بين عهدين في مجتمعين مختلفي
المشارب ولهذا ما يؤدي بطبيعة الحال أن تكون الأجوبة متفاوتة أيضاً بين
مجتمع وآخر.
في البدء لم يكن طليعيوا البشر من علماء وفلاسفة
وأناس طيبون يتكهنون تماماً أن المسار العام في حياة البشرية ينبغي أن
يخضع لالتزام عام بسبب عدم وجود قوة فعلية ذات وجاهة تستطيع أن تحد من
رغبات واهتمامات الأفراد في مجتمعاتها تلك الرغبات التي بدت وكأنها لا
تقف عند حدود معينة من هنا فإن التجارب الحياتية المجتمعية قد أخفقت في
مجالات عديدة بسبب عدم وجود الضابط الأخلاقي والضميري أحياناً.
وكان النضال الماضي – من حيث لم يكن يسمى نضالاً
– يتجه في عمومياته لتوصيف ما يجري على كونه صراع بين الخير وما يقابله
من ندية الشر المتربص به.. ومع أن صياغة الطموحات المشروعة كانت أيسر
مما تعيشه البشرية من مآسي في هذه الأزمنة لكن أحداً لم ينتبه إلى أن
المجتمع الحضاري قد أمسى مطلباً ضمنياً يصل لأجله كل الأخيار (أفراداً
وجماعات وتكتلات وحكومات) حتى إذا ما دار الزمن دورته في بلد ما أو
إقليم ما وأصبح الأمر بيد أهل الخير أخذ المجتمع المعني يتخطى خطوات
ثابتة لبناء مجد إنسانه على الأرض الذي يوصف راهناً بصفات مثل (المواطن
الصالح).
ولعل ما ميز بلد ما على كونه حضاري بالمعنى
العام لمصطلح الحضارة فذاك ما ارتبط بتقديم ذلك البلد مجتمعه وهو يتمتع
ولو بحد الكفاف المادي أو بمعنى الاكتفاء الذاتي الذي يجعل عيشة
مواطنوه هنية وسعيدة دون ما يعكر صفو عيش الناس فيه شيء صارخ وهكذا نرى
أن مجتمع ما كـ(مجتمع قديم) رغم أن ما كان في نسيج العلاقات المجتمعية
فيه يستند إلى مبدأ – التكافل الاجتماعي – يتوافق تماماً مع ما يجول في
النفس البشري الإنسانية من طموح للعيش بمستوى معيشة كريمة تخلد إلى
توزيع العدل الإنساني بين الناس بصورة متساوية قدر الإمكان.
ومما لا يمكن نكره بهذا الصدد أن قيوداً وموانع
عديدة تعترض أي عملية تقدم اجتماعي جادة حادثة في أي بلد نظراً لأن
عمليات النهوض الاجتماعي تتطلب أولاً تحييد كل المواقف السلبية ونقلها
إلى مواقف غير معارضة للخط إنمائي العام في البلد المعني وذلك عبر
الإبقاء على فتح الجسور المتبادلة بين كل المواطنين كيفما اختلفوا.
لحد الآن لعبت بعض السياسات القديمة وتلعب اليوم
بعض السياسات المعاصرة لعبة جهلها ولا تدع مجتمعاتها أو مجتمعات التي
لا قيمومة شرعية عليها كي تتجه نحو إرساء تقدمها الحضاري.
ولعل من الغريب حقاً أن تكون بلدان العالم
القديم الحضارية مستهدفة ضمن خطط السياسات الدولية السلبية وتكتلاتها
المشبوهة من أجل القضاء على آخر نبض تشهده تلك البلدان أو تعيش على
أنفاسه فإذا كان من المُسَّلم به أن إشعاعات البلدان الحضارية رغم ما
تبقى من نسبة مقبولة في مجتمعاتها من أصول حضارية تؤثر على الجوار
الدولي وبالتالي ما سيكون لها من التأثير على لفت الانتباه العالمي
لتلك الإشعاعات الممكن لمسها في بلد دون آخر سواء من عادات أو تقاليد
العفة والأمانة وحسن المعاملة ودرجة الثقافة الحقة التي يتمتع بها ناس
المجتمع وما هو شائع بينهم في الإجمال من مشاعر ومواقف إنسانية ولو أن
مثيل هذه الحالات تتفاوت أحياناً حتى مدينة وأخرى في البلد المعني
الممكن تسميته بكونه أحد بلدان الحضارة القديمة.
إن عالم اليوم قد وضع عبر جهاته السياسية
المتنفذة المجتمعات أمام خياران غير معلنان أما القبول بدرجة ضئيلة من
شيوع الأخلاقيات الحضارية أو إهمال حتى هذه الدرجة الضئيلة في حياة تلك
المجتمعات كما تلاحظ هذه الظاهرة راهناً. |