عن العزيز الرحيم في كتابه الكريم:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد..).
المؤمن بحق – طبعاً – لا المدعي للإيمان ولما
يدخل في قلبه كما يعرض نماذجه القرآن الكريم يعيش حالة الخوف والرجاء،
وهو شديد المحاسبة لنفسه فبها ثمرة صلاح نفسه دون إنجراره إلى كمائن
الهوى والطيش، فلا خوفه يوصله إلى اليأس ولا رجائه يوصله إلى الاغترار
والاعتداد بنفسه الأمارة وعدم طلب المزيد من الرحمة والعمل الصالح.
أو كما يقال: هو في حالة فض اشتباك بين الدنيا
والآخرة، يستمر منذ أن يصبح الواحد مسؤولاً عن نفسه، إلى أن يتوفاه
الموت. فالمحاسبة أو فض الاشتباك من الأمور الحضارية عند جميع العقلاء
إذ لو كان لكل واحد من البشر وازع من نفسه أو مراقب من ضميره يؤنبه
ويحاسبه على كل فعل من أفعاله لتم صلاح المجتمع، وعمت السعادة جميع
الأحياء في الأرض.
وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) ليس منا من لم
يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل خيراً استزاد الله منه وحمد الله عليه،
وإن عمل شراً استغفر الله منه وتاب إليه..)
والقيمة الحضارية تستجلى بوضوح تام فيما لو طبق
هذه العملية في المحاسبة الذاتية لكل فرد من أفراد البشر. فلو عرض كل
منا في أموره الحياتية اليومية والشخصية والعائلية وسائر أموره الأخرى
هذه الأمور على مقياس المحاسبة الخاصة به، يأتيها أو لا يأتيها، يأخذها
أو يرفضها، يمضي فيها أو يتوقف دونها.. يعرضها ليتبين مدى مواءمتها مع
مصالحه الدنيوية وما إذا كان تحقيق هذه المصلحة أو تلك، يتماشى أو
يتعارض مع ميزان أعماله في الآخرة، هل تكتب له في خانة الحسنات أم في
خانة السيئات؟! فإذا استبان له أن أمراً ما ربما حقق له دخلاً وفيراً
أو حقق له مصلحة ذاتية.. آنية أو مستقبلية.. أو أشبع له رغبة معينة إذا
استبان له أن ذلك يتعارض مع حسابات الآخرة، استعاذ بالله منه وأعرض عنه.
وإذا وجد أن اتيان هذا الأمر ليس فيه شبهة الحرام أو الذنب مضى فيه..
هذه المفاضلة بين الدنيا والآخرة تتم بشكل تلقائي، وربما دون تعمد
الاختيار بالنسبة للمؤمن الصادق إيمانه.. الموقن بالله واليوم الآخر..
الذي لا يريد أن يساوم على آخرته.. لأن الآخرة عنده بكثير من الدنيا.
وكل أمر من تفصيلات الحياة يعرضها المؤمن على
الميزان الخاص به، ويفعل ما يعتقد بأنه يقربه من رضا ربه.. فيأخذ
الحسنات وهو يؤدي عمله بدلاً من أن يأخذ السيئات التي يخف بها ميزانه
يوم القيامة، فأسلوب الوعد والوعيد والترغيب والترهيب في الجنة والنار
لرادع قوي لكثير من الناس خصوصاً وأن الدين الصحيح لا المزيف أياً كان
لا يأمر بما هو شر ولا يترك ما هو خير، بل كل أوامره منصب لهداية البشر
وإصلاح الفرد وبه يتم إصلاح المجتمع.
وبالعكس إذا لم تكن الآخرة حاضرة في ذهنه، أو
أنها غير داخلة في حساباته أصلاً، فسوف يفعل ما بدا له، ولسوف يخرج
بحصيلة من السيئات تقربه من جهنم خطوات.. بل ربما قد يستهزا بهذه
المفاهيم ويزيد من الفساد عناداً للحق وأهله أو يتباهى بفعل المنكرات،
كما في قوله تعإلى (أخذته العزة بالإثم)
كما هو واضح في عالم اليوم من تقارير المنظمات
الدولية عن انتشار تجارة الرقيق الابيض، حيث تشير تقارير وزارة
الخارجية الأمريكية
وتشير تقارير وزارة الخارجية الأمريكية إلى أن "المجرمين
الدوليين يتخلون عن تجارة الأسلحة والمخدرات ويتحولون إلى تجارة الرقيق
الأبيض", وتعترف بأن قوانين المكافحة لا تزال "ضعيفة" قياساً بتزايد
الطلب على النساء الأجنبيات اللواتي يقدر عددهن سنوياً بأكثر من 350
ألفاً يأتي معظمهن من أوكرانيا والفيليبين وتايلاند والمكسيك وألبانيا
ونيجيريا. ويؤكد عضو مجلس الشيوخ هارولد كوه أن "تجارة النساء والأطفال
باتت الأكثر رواجاً في العالم المتقدم والمتخلف على السواء", وهذا ما
يشكل "دليلاً سيئاً على العبودية في هذا العصر". أما منظمة اليونيسف
فتشير إلى أن عدد اللواتي يرغمن على ممارسة الجنس لأغراض تجارية يربو
على مليوني فتاة سنوياً.
وعلى هامش تجارة الرقيق تنتشر ظاهرة ما يسمى "سياحة
الجنس" التي يصفها بعضهم "بالفطر الأسود السام" دليلاً على سرعة
تكاثرها وانتشارها في السنوات القليلة الماضية. وهي باتت تشكل لدى بعض
الدول التي, لم تكن أصلا مدرجة على اللوائح السياحية, ركناً اقتصادياً
مهماً بعدما شرعت أبوابها لصناعة الجنس ودخلت "نادي البغاء الدولي" من
بابه الواسع.
ويعزو خبراء السياحة تنامي هذه الظاهرة إلى أن
تجار الجنس يقدمون خدماتهم للسياح بأسعار متدنية خصوصاً في فترات
الأعياد والعطل والمناسبات التي تخفّض فيها تذاكر السفر وتفتح فيها
خطوط طيران جديدة, فضلاً عن تراخي أجهزة المراقبة الأمنية في المرافئ
الجوية والبحرية وانتشار الفساد والرشا بين أفرادها.
واللافت أن الرياضة, وتحديداً الألعاب الاولمبية
الدولية, دخلت هي الأخرى أيضاً حلبة الجنس وباتت لدى تجار الرقيق
الأبيض فرصة ذهبية تتكرر كل أربع سنوات لاستغلال ملايين السياح
المرافقين للاعبين الدوليين واستقبال آلاف بنات الهوى الوافدات من جميع
أنحاء العالم. فعلى سبيل المثال شهدت استراليا أثناء استضافتها هذا
الحدث الرياضي عام 2000 حملة إعلانية واسعة من قبل سماسرة الجنس في
الصحف والمجلات والإذاعات ومحطات التلفزة والانترنت, حتى اضطرت السلطات
الاسترالية إلى إصدار كتيبات ومنشورات تتضمن إرشادات صحية ووقائية
للحيلولة دون انتشار مرض الإيدز وغيره من الأمراض.
وتجمع المنظمات الإنسانية الدوليـة على أن
البواعث الحقيقية التي تدفع النساء والأطفال إلى أسواق الرقيق لم تكن
تلبـيـة لفعل إرادي أو لرغبة في ممارسة الجنـس, بقدر ما كانت قسرية من
جهة وإرهابية من جهة أخرى. فالنساء البائسات يلجأن بدافع البطالة
والجهل والفقر إلى بيع أجسادهن أملاً بحياة أفضل وغالباً ما يقبلن
عروضاً للعمل خارج أوطانهن بموجب عقود وهمية تراوح مدتها بين ستة اشهر
وسنة أو يجرى تهريبهن بواسطة "مافيا الحدود" أو يحصلن على جوازات سفر
مزورة لقاء مبلغ 2500 دولار. وإلى ذلك يجرى استغلالهن بـشكل بـشع, إذ
ترغم الواحدة منهن على معاشرة ما معدله 36 رجلاً في اليوم الواحد وفي
ظـل نظام عمل صارم يصل إلى 6 أيام في الأسبوع ولمدة 12 ساعة يومياً,
علماً أن زيادة الطلب عليهن قد تتضاعف في المناسبات والأعياد.
أما الأطفال, علاوة على معاناتهم في الفقر
والمرض والتمييز العنصري وإهمال الأهل والأمية, فيتعرضون مرغمين
لاعتداءات جنسية من قبل أرباب العمل أو من الميليشيات المسلحة أو من
حراس مخيمات اللاجئين ويباعون أحياناً بأثمان بخسة. وتقدر اليونيسف عدد
الذين يباعون سنوياً في أسواق الرقيق الأبيض بأكثر من 6 ملايين طفل
بينهم حوالي مليون ونصف المليون من الإناث يتوزعن على مصانع الجنس كل
عام: في الفيليبين 100 ألف والهند 400 ألف وتايوان 100 ألف وتايلاند
200 ألف والولايات المتحدة الأمريكية 325 ألفاً والبرازيل 100 ألف
وبلدان أفريقيا 350 ألفاً وأوروبا 175 ألفاً.
وفي هذا الصدد, تشير منظمة الصحة العالمية إلى
أن مأساة هؤلاء الأطفال لا تقف عند حدود بيعهم وشرائهم بل إلى إصابتهم
بعوارض جسدية وجروح بليغة وآلام نفسية قد تلازمهم طيلة حياتهم وقد تكون
أيضاً سبباً لوفاتهم في وقت مبكر. كما تلحق بالقاصرات مخاطر الحمل غير
المرغوب فيه وعدوى انتشار مرض الإيدز وغيره من الإمراض التناسلية علاوة
على تهميشهن اجتماعياً والنظر إليهن كمنبوذات بين أهلهن وأقاربهن
ومحيطهن.
فمثل هؤلاء الوحوش لو كانوا مؤمنين أو كانوا
يفكرون مجرد تفكير في آخرتهم لامتنعوا عن ذلك، ولكنهم لا يفكرون إلا في
تدبير الحيل والخداع للإيقاع بالأبرياء.
فهؤلاء ليس لديهم مجال للمحاسبة وفض الاشتباك
لعدم إيمانهم بالآخرة والعذاب فهم يريدون الدنيا فقط، ويريدون أن
يأخذوا منها أقصى ما يستطيعون قبل أن يموتوا.. فالموت عندهم هو النهاية
ولا شيء بعده.. والقدر يحضر لهم مفاجأت غير سارة تتبخر فيها أحلامهم
أمام أعينهم، بحيث يتبين لهم قبل الموت بأنهم خسروا الدنيا التي كانوا
يدورون في فلكها، وقد تكون المفاجأة شديدة الوقع عليهم، فيلجأون إلى
الانتحار أو يصيبهم الاكتئاب، أو تحل بهم الأمراض دفعة واحدة.. وربما
أقلها الإيدز. فلا دنيا ولا آخرة.
والمحاسبة عملية جرد مفيدة حتى لغير المؤمنين
فلا أقل لدنيا أجمل وحياة أفضل وسعادة أطول. |