إن التفاهم بين الناس قد يتم بالكلمات والإشارات
وما إلى ذلك من وسائل، ولكن جدوائية ذلك غير ممكنة في كل الأحوال. لأن
الكلمة إذا وصلت يوماً فكراً بفكر قد تكون السبب في فصل فكر عن فكر. بل
إن الكلمة التي تقرّب اليوم ما بين إنسان وإنسان قد تبعد في الغد ما
بينهما.
فالحركة الواحدة قد تؤدي ألف معنىً لألف ناظر،
فهي للبعض حركة سلام وللبعض الآخر حركة خصام وكم من كلمة نتلفظ بها
فتؤدي إلى السامعين بعض ما حمّلناها من معان ومقاصد لا كلها، وأحياناً
فوق ما حمّلناها أو عكس ما حملناها من المقاصد والمعاني.
وذاك هو السر في ليونة اللغة فيتصرف كل من
الشاعر والناثر والخطيب بها حسب الظروف والمزاج والفهم وكذلك المتلقين
يفهموها حسب أذواقهم وطبائعهم من ألوان الشعور والانفعالات.
فالإنسان مجموعة متناقضات، لأنه ما برع من حياته
في مرحلة الخير والشر. فكيف للغته وتفكيره أن تكون غير ذلك. فالتفاهم
الكامل لا يتم إلا بالمعرفة الكاملة بين اثنين، ولكن بين جاهل وجاهل أو
بين عارف وجاهل فالتفاهم الكامل ضرب من المحال.
وخير شاهد على ذلك الأنبياء والمرسلون حيث جاءوا
العالم بآيات من عند ربهم منزلات فماذا كان نصيبهم من الناس؟ لقد أساء
الناس فهمهم فناصبوهم العداء وشنوا عليهم حروباً شعواء. حتى الذين
آمنوا بهم في حياتهم أو بعد مماتهم ذهبوا في تفسير أقوالهم مذاهب شتى.
فكانت الملل والنحل. وكان النزاع الدامي بينها، والصراع العنيف ما تزال
نيرانه حسية تحت الرماد.
إذن فما هو سبيل التفاهم؟ بما أن التفاهم عملية
روحية تتم في القلب.
فإذا صفى القلب وأحب هنا يمكن الإغضاء عن
الإساءة، بل ينقلب إلى إحسان ويصبح الغامض جلياً، والمبهم غير مبهم.
فالمحبة مفتاح به تدخلون قلوب الناس، وبه يدخل
الناس قلوبكم.
ومتى انفتحت لكم قلوب الناس، وانفتحت قلوبكم
للناس عشتم وإياهم في تفاهم دائم.
أما من ناحية التفكير فمخاطبة الناس على قدر
عقولهم عملية ناجحة كما هو ديدن الأنبياء في تبليغهم وسر نجاحهم في كسب
قلوب الناس ومودتهم فإذا ما أمتزج الحب والفكر أي القلب والعقل عندها
تسيطر على كيان الإنسان وتجعله يتفانى في سبيل الفكرة ولم ينجح في ذلك
إلا الأنبياء والأوصياء. |