نقلت إلينا قصص التاريخ ذات الدروس والعبر أن
الوقوف مع الأقوى ضد الشعوب أو مع القوي ضد الضعيف كانت ديدن الغالبية
في مجتمعات كثيرة ولعل من المفارقة التاريخية المتكررة أن الوقوف مع
الأقوى الفارض سطوته بالباطل ما تزال تشكّل ظاهرة عالمية وربما كان ذلك
يعود إلى خلل ما في تركيبة الذات البشرية رغم أن هذه النقطة لم تشغل
الباحثين المتخصصين في علوم التربية أو النفس أو الاجتماع أو التاريخ
حتى الآن.
لا بأس من الاستهلال لهذا الموضوع أن ضحايا
الوقوف الاجتماعي العام ومنه الوقوف الفردي الخاص ليس بقليل وإذا ما تم
تعداد أنواع الوقوف مع الأقوى ولنسمي ذلك بالوقوف العفوي – أي الذي لم
ينتبه إليه الفرد أو الناس تماماً – أو الوقوف الآني – وهو الذي يقرر
فيه الفرد أو الناس نتيجة لضغط ما – ويعلنوا عن اصطفافهم الفوري دون
سابق تمحيص فيمكن القول أن هناك نظرية كاملة تخص السلوك البشري بهذا
الصدد لكن أحداً لم يخض في مساندها ومنطلقاتها والآفاق السلبية المؤثرة
التي تركتها في ترجيع مستوى المجتمعات إلى الوراء بدلاً من دفع تلك
المجتمعات إلى الإمام لو تم حسن الاختيار في المواقف.
فباستثناء أفراد قليلين ممن كانوا عمداء للحق ضد
أصحاب الباطل فإن تفسير موقف مناصرة الأقوى لا يمكن فصل تحليله إلا
بالإشارة إلى أن الخلل الشخصي أو الجماعي موجود لدى تركيبة الغالبية
بكل مجتمع والأقلية وحدها هي التي لا تميل إلى مواقع الأقوى حتى ولو
كان ذلك على حساب مصيرها. من هنا تبرز مبدئية الفرد أمام عدمية الجماعة.
إن المجتمعات كافة المتقدمة أو النامية ليست
خالية من مشاكل اجتماعية وأن عليها أن تختار حلولاً أفضل لما يعتريها
من تلك المشاكل وأول تلك المشاكل أفضلية
عدم الوقوف مع الأقوى إذ يمكن أن يتحول أولئك
الثرثارون الذين كانوا يوماً يعانون من فراغ فكري ويتقولون أكثر مما
يفعلون.
إذا وجدوا الفرصة – ليصبحوا أي سلطة قوية أو
تجمع قوي فإن أول ما يستسهله مثيل هؤلاء هو إباحة المحظورات رغم عدم
وجود ضرورات لها.
ومحطات الإنسان السوي القوي العزيمة في ضميره لا
يبالي من شيء اسمه فروض القوة أو التطرف الغاشمين وما يمكن أن يؤدياه
ضده لذلك تراه بمثابة المنقب عن الحقيقة وليس باحثاً عنها فقط فهو عادة
لا يحب أن يشكر على عمل قام به لنصرة ضعيف لأنه يعتبره من ضمن واجبه
وفي زمن كهذا حيث يقل فيه الشهود المصداقون حتى الذروة فإن مبدأ الوقوف
مع القوي أو الأقوى يبدو أنه بات أحد مسلّمات العصر وبذا أمسى التاريخ
الإمبراطوري القديم الواصل إلينا من عهود ما قبل التاريخ يكرر نفسه في
تقديم مآسي الإنسان على طبق من فضة مغشوشة فبعض الجوائز الدولية بدلاً
من أن تمنح لمستحقيها أضحت ممنوحة لأولئك التافهين من أعداء الحياة
ولعل في استمرار هذه الظاهرة ما أبعد العديد من الجوائز لمستحقيها
الحقيقيين ممن وجدوا أنفسهم بشكل فجائي وكأنهم خارج مكان دائرة الإبداع
والمبدعين وبذاك يمكن التيقن أن أحياء هذا الأمر واستعادته إلى نصابه
الصحيح لم يعد يسيراً بهذا الزمن الذي اختلطت فيه الأمور والرزايا.
ولعل من الغرابة حقاً أن معرفة العديد ممن
ساهموا ويساهمون حاضراً في تقييم الأوضاع العامة سلبياً لصالح القوي
الباطل في المجال السياسي أو الثقافي وضمن المجتمع أو العائلة يجري
وكأن شيئاً لم يكن!.
وأكيد لا بد وأن يكون لكل امرء شعوراً عالٍ
بالمسؤولية في كل ظرف فتطورات الحياة تتطلب دوماً مواقف إيجابية يكون
فيها دافع الفعل مبرراً للفعل الواقع وأن لا يكون هناك عجز يبعد الناس
الأسوياء (أفراداً وعوائل) عن المشاركة الممكنة في قول كلمة حق لطيفة
هنا والقيام بفعل خير هناك فصفحات الحياة تتطلب مساهمات لتجميلها فإن
أي فعل مهما صغر أو كبر يدل على درجة الوعي المقرون بموقف عند صاحبه.
لقد كان الحديث قبيل الوصول إلى مشارف الألفية
الميلادية الجديدة الثالثة الحالية قد أثيرت مواضيع عديدة بانت في
إدلاءاتها التصورات عن أي مستقبل ينتظر البشرية في هذا القرن الحادي
والعشرين وكانت هناك مناقشات رغم أنها لم تبدُ حامية لكنها قد أثارت
جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية إذ كانت عملية المتغيرات تبدو مقلقة
لما يمكن أن تأتي به وكان الرأي العام العالمي يعتقد أن مجرد الدخول
بحقبة هذا القرن فإن العنف في العالم سيكون قد شارف على الانتهاء
والهزيمة ولكن ما حدث كان العكس ومازال هو العكس ومما لا يعقل أن ينم
أي تفسير لخفايا هذه المرحلة السياسية المعاصرة لإيجاد مبررات بأن ما
يحدث في بقاع عديدة من عالم اليوم على كونه نتيجة طبيعية لواقع حال
الصراع السياسي الحقيقي.
إن العالم اليوم بحاجة لتأصيل العلاقات بين
الدول وإعادة النظر بالعديد من المفاهيم السائدة المعتمدة في التداولات
الرسمية والأهلية ضمن خطة العمل لإسعاد البشرية وإنقاذ إنسانيتها. |