رغم أن الإجماع الوطني العراقي لا يقبل أن يحاكم
صدام خارج العراق تحت أي مبرر كان فإن مناقشة هادئة لوضع صدام سجيناً
لا يقل أهمية من حيث إقران ذلك باحتمال ظهور مفاجأة. وما يخشاه الرأي
العام العراقي أن تطال يد سرية حياة صدام وتنهيها بطريقة فنية على
طريقة الأفلام الهندية بحيث لا تترك أثراً يمكن التعويل عليه بشكل أخير
كما يحدث عادة بعد تنفيذ عمليات الاغتيال السياسي لشخص أو أكثر فتضيع
الحقيقة مع تعدد الاحتمالات!
عمليات القتل الفردي والجماعي خلال حقبة الحكم
الصدامي المقبور كانت ظاهرة عادية عايشها الشعب العراقي على مضض وبقلق
بالغ لم يعادله قلق آخر فقد اشترت سلطة الحكم آنذاك ذمم كل العناصر
المغامرة التي دخلت معترك الحياة السياسية في العراق لصالح تقوية
النظام الحاكم وعلى حساب مصالح العراق العليا لدرجة بلغت فيها جرائم
التصفيات الجسدية داخل وخارج السجون العراقية أرقاماً كبيرة لا تصدق
أحياناً إذ وصلت جثامين الضحايا إلى الملايين سواء منهم من شارك في
حربي العراق مع الكويت وقبلها مع إيران أو ممن تعرضوا للإبادة داخل
السجون العلنية والسرية المنتشرة بالعراق بحسب تقديرات المعارضة
العراقية.
وحيث أن ما أخفي هو أعظم حتى الآن وأن رأس
النظام السابق (صدام) هو الآن معتقل فإن إثارة موضوع محاكمته يفضل (بل
ينبغي) أن تتم داخل العراق لأن الشعب العراقي هو الذي دفع الثمن غالياً
من بقاء حكم صدام على دست الحكم وعانى من كل قراراته السياسية الرعناء
والقضية برمتها هي من اختصاص وصلاحية الشعب العراقي لذلك يمكن اعتبار
أن التوسع الآني في طرح موضوعات عديدة تتعلق بالشأن العراقي على
المستوى الإعلامي العربي والإقليمي والدولي حول احتمالات التقسيم
العراق، أو مطالب الفيدرالية وغيرها ما هي إلا إلهاء للرأي العام رغم
جدية تلك الأطروحات السياسية (حسب الظاهر) إذ من المعلوم أن توقيت مثيل
هذه الأمور الخارقة للمعتاد السياسي تتلاحق فيها حالة تقديم المهم على
الأهم، الذي هو عرقلة تحقيق إصدار الدستور العراقي الدائم وعدم تشكيل
الحكومة العراقية المحلية وما يلحق ذلك من انتخابات واستحصال استفساءات
حول البرلمان والعديد من القوانين التي لا يمكن بغيرها تسيير أمور
الدولة حيث أن كل ذلك قد تم تأجيلها إلى أجل أصبح الآن مسمى هو مرور
عدة أشهر لا تنتهي قبل الوصول إلى تاريخ منتصف هذه السنة 2004م وهي مدة
بقيت طويلة قياساً لما كان متوقع أن يتم العمل له بصورة أسرع وأكثر
جدية ومنذ اليوم الأول لسقوط الحكم السابق في نيسان 2003م الماضي إذ
يمكن القول أن انتظار كل هذه المدة قد أضاعت الفرصة السياسية الثمينة
على شعب العراق حيث كانت مدة مرور ستة أشهر بعد سقوط النظام البائد
كافية لانبثاق كل مستلزمات الدولة الجديدة بحسب أكثر التقديرات
السياسية الحكيمة لكن ما يبدو أن ذلك التأخير غير المتوقع كان مربوطاً
بخيط رفيع أحد طرفاه هو إلغاء أي اجراء عملي سيعقب إلقاء القبض على (صدام)
الذي كان آنذاك قد اختفى في ظل ظروف سياسية غير مقنعة أمام الرأي العام
العراقي (على الأقل).
ومنذ إلقاء القبض على (صدام) يوم 13 من شهر
كانون الأول 2003م الماضي فإن هدف إبقائه دون محاكمة حتى الآن بحجة عدم
وجود هيئة محكمة تابعة لدولة قائمة في العراق لا يخلو من محاولة لحجب
حق الشعب العراقي في إجراء تلك المحاكمة المشروعة أو نقلها إلى خارج
العراق وبالتالي فإن تسمية تلك المحكمة إلى (محكمة دولية) مما يوضح أن
غاية تأجيل البت في تشكيل الحكومة العراقية الدستورية طيلة هذه المدة
لها من العلاقة لتضبيب أمر تلك المحكمة وبالتالي خلق أرضية سياسية تمهد
لزرع حالة فتور في نفوس العراقيين وثم سيسهل ذلك أن يتقبلوا الأمر
الواقع المفروض عليهم بفعل نفوذ قوى الاحتلال البريطانية – الأمريكية
الذي سيضمن نقل (صدام) علناً إلى الخارج وإجراء محاكمته هناك على سفاسق
انتهاجات سياساته الخارجية وبالتالي احتمال إنقاذه هاملة تلك القوى
بذلك وجرائمه الأكبر التي اقترفها هو فريقه السياسي المزيف بحق الشعب
العراقي وأباد من خيرة أبنائه ونسائه ما زاد على (4 أربعة ملايين إنسان
عراقي) معظمهم كانوا أبرياء وبعيدون عن العمل السياسي وغير مدانين بأي
قرارات قانونية أو مخالفات قضائية تذكر ومعلوم أن عصابة الحكم في زمن
صدام لو لم تنتهج تلك السياسة الفاشية ضد الشعب العراقي لما استطاعت أن
تصمد في الحكم يوماً واحداً.
وبحسب خبر جريدة (الشرق الأوسط) في عددها الصادر
على الشبكة العالمية (الانترنيت) هذا اليوم السبت 11 كانون الثاني
2004م والمذاع من قبل بعض محطات الراديو والتلفزة الفضائية أيضاً خلال
اليومين الماضيين الخميس 9 والجمعة 10 كانون الثاني 2004 والذي تأكد
فيه وفقاً لإعلان البنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية) إذ جاء على لسان
(لاري ريتا) كبير المتحدثين باسم البنتاغون للصحافيين من مساء أول أمس:
(لقد قرر المحامون منح صدام وضعية أسير حرب عدو) مما يعني أن قوات
التحالف الأنكلو – أمريكية التي تقف وراء هذا القرار إنما ستجعل صدام
يعيش في بحبوحة داخل سجنه ويمنح مرتب شهري يناسب الرتبة التي كان عليها
كرئيس جمهورية، كما أن معاملة صدام كأسير حرب تحول دون مثوله أمام
محكمة عراقية حسبما جاء في مانشيت لجريدة (الأخبار) القاهرية الصادرة
هذا اليوم هذا في حين أعلنت جريدة (الحياة) اللندنية بعددها اليوم أيضاً
تحت مانشيت يقول: (إعلان صدام أسير حرب يجنب واشنطن تسليمه إلى مجلس
الحكم لمحاكمته عراقياً).
ومع الاختلاف في الإعراب عن وجه النظر حول بقاء
أو عدم بقاء أحقية الجانب الحكومي العراقي في إجراء محاكمة صدام وفقاً
لقرار عراقي قانوني مستقل مسألة لم تحسم بعد في نظر بعض المراقبين فقد
أبدى مجلس الحكم الانتقالي استغرابه (إعلان البنتاغون) الآنف وشدد
القاضي (دارا نور الدين) عضو مجلس الحكم على أن (هذه المسألة إعلان
البنتاغون صدام أسير حرب يجب أن تناقش مع سلطة التحالف لمعرفة دوافع
اتخاذ مثل هذا القرار).
هذا وبقرار قوات الاحتلال الأنلكو – أمريكية
المتحالفة الآن على أرض العراق عسكرياً حول اعتبار صدام أسير حرب فقد
دخلت قضية (محاكمة صدام) إلى دهاليز السياسة الغربية المعاصرة التي
عُرف عنها أنها تمضي بتنفيذ خططها الخفية قدر ما تستطيع لكنها إذا ما
قررت إجراء محاكمة صدام في الغرب تحت أي حجة أو تبرير فإن قصر نظر مثل
هذا القرار سيعتبر بمثابة تأييد غربي ضمني لـ(صدام) على كل ما اقترفه
من جرائم ضد الشعب العراقي. |