تمتاز اية معارضة سياسية تعمل من خارج البلد
الأم في ظروف استثنائية بانها معارضة مفتوحة على كل الاتجاهات والرياح
الفكرية والسياسية , فالنظام الذي تعارضه مصارع لا يعترف باللعب على
حلبة خشبية محددة الأبعاد او بساط دائري معلّم، فهو في قمعه للمعارضة
يصادر كل الحقوق ويقفز على كل المحرمات ويجتاز كل الدوائر الضوئية
الصفراء والحمراء, وبالتبع فان المعارضة تكون في حل من امرها تعارض
النظام بكل السبل وبعضها تتشبث بالشيطان الناري من اجل التخلص من
الشيطان الفخاري ضمن سياسة ميكافيلية , وقد تتشبث بكليهما على اعتبار
ان الشيطان الفخاري اكثر مكرا من الشيطان الناري فكيد الشيطان تفتر
قوته عند كيد الانسان ، فكيد الشيطان كان ضعيفا.
ولعل نظام صدام حسين البائد هو مثال النظام الذي
اباح لجياد سلطته التجوال والتصوال فوق جسد المعارضة العراقية بلا رحمة,
وازاح من طريقه كل شيء من اجل ان يضع هذه المعارضة بكل أطيافها في
دائرة الموت المحقق, فعلى سبيل المثال احرق آلاف القرى في شمال العراق
وحجته في ذلك ان هذه القرى تأوي مقاتلين اكراد او تقف حجر عثرة في طريق
الامدادات النظامية لجبهته العسكرية الامامية وكأنه في حرب ضروس مع عدو
غاشم قادم من بلاد يأجوج ومأجوج, وجفف مياه الاهوار جنوبا ليتمكن من
السيطرة على حركة المعارضة المسلحة في جنوب العراق وازاح من شريط
الحدود العراقية الايرانية المئات من القرى السكانية قبل واثناء بدء
الحرب العراقية الايرانية. ومن سياساته انه عمد الى قلع الاشجار
والنخيل من اية منطقة يتوجس منها خيفة, وحتى يؤمن له العاصمة بغداد
فانه منع الناس من التملك فيها وأوغل في طرد الكثير من العوائل
العراقية وهم في الغالب قدموا من مدن الجنوب والوسط وبعض مدن الشمال
العراقي, وشجع في المقابل لفئة معينة قريبة من دوائره العشائرية
والمناطقية على التملك ليس في بغداد فحسب بل في عموم العراق.
واصطبغ نظامه بصبغة دامية يمارس سياسة الأرض
المحروقة بلا حساب, يشجعه في ذلك مهارته في تأمين الجبهة الاقليمية
والدولية على حساب المجتمع العراقي، ولذلك فان مجزرة حلبجة في اذار
مارس عام 1988م على سبيل المثال مرت مرور الكرام من امام المجتمع
الدولي, لان هذا المجتمع الدولي المتمثل بالكبار في مجلس الامن الدولي
ليس فقط لم يحرك ساكنا وانما عمل بعضهم على منع اصدار بيان ادانة
للنظام كما فعل الساسة في مجلس الامن القومي الامريكي عندما حاول بعض
النواب الامريكيين اصدار بيان ادانة.
ومن طرائف سياسة النظام في تعامله مع المجتمع
العراقي انه وفي احدى المرات تعرض احد رجال النظام لعملية اغتيال فاشلة
في مدينة كربلاء المقدسة , وكان المهاجم يمتطي دراجة نارية , فما كان
من السلطات الامنية في المدينة الا ان جلبت كل من يملك دراجة نارية
وراحت تحقق معه حول الحادث باعتباره انه محل اتهام, فالتهمة في مثل هذه
الحوادث محرم ان تسجل ضد مجهول، فكل من يملك دراجة نارية يقع في دائرة
الإدانة، وله بعدها ان يثبت براءته.
في قبال ذلك لم تتوقف ماكنة المعارضة العراقية
الاعلامية ولا زالت من النيل من هذه السياسة الرعناء التي تخلط الحابل
بالنابل وتأخذ الكل على التهمة والظنة.
ومن مفارقات الدهر ان سياسة الارض المحروقة التي
مارسها النظام البائد في قرى الشمال واهوار الجنوب بأوسع مدياتها, تعاد
من جديد على يد قوات التحالف، فبمجرد ان تنطلق رصاصة او قذيفة من منطقة
زراعية او منطقة أحراش, تسارع في عمل عجول غير محسوم العواقب الى ابادة
الحقول الزراعية والمواشي لتجعلها ارضا جرداء مكشوفة لناظريها، في حين
يفترض بقيادة قوات التحالف ان تقدم للشعب العراقي انطباعا حسنا مخالفا
عن الانطباع الذي يحمله الناس عن نظام صدام حسين البائد, والا فان مثل
هذه الممارسات وان كانت مفهومة الدوافع عند قوات التحالف، لكنها غير
مقبولة عند العراقيين وهي تضيف صورة جديدة الى سجل الصور التي تختزنها
الذاكرة العراقية عن سياسة الأرض المحروقة التي مارسها نظام صدام من
قبل، وقد تأخذ مساحة المقارنة بين ممارسات النظام البائد وقوات التحالف
التي بشّرت العراقيين بالحرية بالانحسار كلما زادت مثل هذه الخروقات.
واذا تركنا سلطة التحالف جانبا, لانها راحلة
اصلا, فان المشكلة اليوم في بعض اقطاب المعارضة العراقية التي تلوك
مفردات كان ينجزها نظام صدام بدم بارد وهي محل ادانة من قبلها, فعلى
سبيل المثال لازالت بعض اطراف المعارضة تنظر الى سكان بعض الاحياء
الكبيرة في بعض مدن العراق بوصفهم غرباء.
وهذا المصطلح الغريب عن وعي الجماهير العراقية
والمتناقض مع الأدبيات الوطنية والاسلامية بدأ يزحف الى المدن العراقية
المقدسة ذات الكثافة السكانية التي هي مهوى قلوب المسلمين, وقد كشفت
حوادث كربلاء التي وقعت في شهر اكتوبر (تشرين الأول) المنصرم والصراع
بين الاقطاب الدينية فيها والاعتقالات التي طالت العشرات من اتباع تيار
السيد الصدر والذين نقل بعضهم الى سجن قوات التحالف في الحلة وبغداد,
هذه الحوادث كشفت عن جانب من الموروث الثقافي الهجين الذي غذاه النظام
في لاوعي بعض شرائح العراقيين والذي تسلل الى بعض اطراف المعارضة
العراقية رغم انها كانت تحاربه اعلاميا وتنال من سياساته, ولكن مع زوال
نظام صدام صارت بعض اطراف المعارضة تترجم على الأرض نفس مفردات النظام
متناسيا كل ادبياته السابقة وحتى الثوابت الاسلامية والوطنية, واذا
بتنا نسمع عن صفين متحاربين في حوادث مدينة كربلاء احدهما اهالي
المدينة واخر غرباء عن المدينة من اللفوّة والمعدان, او صراع بين تيار
الصدر واهالي المدينة, واذا كان بعض المعتقلين من تيار الصدر هم من
الذين استوطنوا المدينة مع بداية الحرب العراقية الايرانية او بعد حرب
الكويت او قبلهما بفترة, فان بعضهم من سكنة المدينة أبا عن جد, اي تسقط
دعوى الثنائية والسماطين في المدينة الواحدة, لان مفردة (الغرباء) او (المعدان)
او (اللفوّة) هي مفردات قميئة ماكَرَ نظام صدام حسين على غرسها في
أدمغة بعض سكان مدن بعينها لخلق حالة من اللاتواصل بين شرائح المجتمع
العراقي وايجاد فواصل سحيقة بين العشائر العراقية والعوائل العراقية
وسكان المدينة الواحدة ضمن سياسة فرق تسد, بل ويمكن التأكيد هنا ان هذه
المفردة التي كثرت في بعض البيانات والتحليلات التي صدرت بعد حوادث
كربلاء تغذيها عقول قادمة من وراء الحدود فاجأها التحول الديمغرافي
الدي حصل في مدن العراق والذي يجب ان تتقبله بوطنية مسؤولة.
وحتى يعود الوعي وتعود الذاكرة ويتعلم الخلف من
سوابق السلف, فان حدثا شبيها وقع في نفس هذه المدينة يماثل في البواعث
الى حد بعيد ما حصل مع تيار الصدر وبنفس مفردة الغرباء, ففي النصف
الثاني من القرن الماضي هجم بعض سكان مدينة كربلاء على مركز (الجمعية
الخيرية) الثقافي بحجة ان العاملين فيه من الغرباء ومن الدعاة ومن
مرجعية دينية غير كربلائية.
واذا كان بعض رجالات كربلاء قد استنجدوا بقوات
التحالف لمحاولة اجتثاث تيار الصدر من كربلاء واغلاق مركزهم الديني هذه
المرة, فان بعض رجالات كربلاء في ذلك اليوم تحالفوا مع الحزب الشيوعي
عند الهجوم على الجمعية الخيرية, حيث اتفقت مصلحة هذا البعض مع مصلحة
الحزب الذي افتى السيد محسن الحكيم بكفره والحاده.
ومانسمعه في كربلاء المقدسة نسمع شبيهه في مدن
اخرى، فاذا كانت مصطلحات من قبيل اللفوّة والغرباء تسري عند بعض
البيوتات الكربلائية وعلى ألسنة بعض القادمين بعد عقود من الهجرة
والتهجير والإبعاد , فان القريحة الأدبية في بعض المدن مفتوحة أبوابها
على الأمثال غير مكتفية بالمصطلحات, اذ صار هؤلاء الغرباء او اللفوة
محلا للامثال، فيشتهر في بعض هذه المدن قول البعض: (ألف مصري ولا بصري),
فالمصري تعريض بالنظام السابق الذي فتح العراق امام العمالة المصرية
التي ساهمت في حينها بسد الفراغ الذي خلفه سَوق الشباب العراقي الى
جبهات الحرب العراقية الايرانية, والبصري وان كان تحديدا القادم من
مدينة البصرة الجنوبية ولكنها اشارة الى عموم مدن العراق الجنوبية.
فللمرء وبعد غياب نظام صدام ان يتصور حجم معاناة
المواطن العراقي عندما يصبح غير مرغوب فيه في بلده الذي يتساوى هو
وغيره في الحقوق والواجبات، ويصبح عرضة ومحلا للأمثال المندكة
باللاوطنية!
alrayalakhar@hotmail.com |