تحدث المفكر السعودي الأستاذ محمد محفوظ (مدير
تحرير مجلة الكلمة)، مساء الاثنين: 10/8/1424هـ، في اثنينية النعيم
الثقافية بالأحساء، حول موضوع: "الحوار الوطني وآفاق الوحدة الوطنية"،
في ندوة حضرها مجموعة من المثقفين والكتَّاب والوجهاء. وقبل أن يبدأ
المحفوظ بإلقاء محاضرته القيِّمة رحَّب به صاحب الاثنينية (محمد بن
صالح النعيم)، بعد أن عرَّف به مقرر الندوة (أحمد الدولي). المحفوظ في
كلمته تطرق لأربعة محاور، تناول فيها: معنى الحوار، وقواعد منهجية في
الحوار الوطني، ومن الحوار المذهبي إلى الوحدة الوطنية، وأخيراً من أجل
ميثاق جديد للوحدة الوطنية. ومع ختام كلمة المحفوظ بدأت المداخلات التي
توافقت في معظمها مع ما جاء في ورقته.
تحت هذه السطور مقتطفات لأفكار ورؤى هامة جاءت على
لسان المحاضر، وهي بحق جديرة بأن تتداول بين مختلف النخب الفاعلة؛
لنأخذ منها ما يصلح واقع مجتمعاتنا.
معنى الحوار
عن معنى الحوار أشار المحفوظ قائلاً: حين التأمل في
المشهد السياسي بكل مستوياته، نكتشف أن الصراعات والنزاعات الدائمة، لا
تنشأ بسبب وجود الاختلاف والتنوع، وإنما تنشأ من العجز عن إقامة نسق
مشترك يجمع الناس ضمن دوائر ارتضوها. وعليه فإن الحوار لا يدعو المغاير
أو المختلف إلى مغادرة موقعه الثقافي أو السياسي، وإنما هو لاكتشاف
المساحة المشتركة وبلورتها، والانطلاق منها مجدداً ومعاً في النظر إلى
الأمور. وإن عظمة أية ثقافة في انفتاحها، وقدرتها على تأصيل مفهوم
الحوار والنقد في مسيرتها، فثمة أشياء ومعارف عديدة يتم الاستفادة منها
من جراء الانفتاح والتواصل والحوار.
وأكد المحفوظ على أن الثقافة التي تصطنع الانفصال
والانغلاق تبتر التاريخ وتقف موقفاً مضاداً من الوعي التاريخي. كما أن
الثقافة الحوارية، هي المهاد الضروري إلى التقدم الاجتماعي والسياسي
والحضاري. وقال: إن الحوار قيمة إسلامية وحضارية، أرساها النص القرآني،
وعمل المسلمون على ضوئها وهديها في علاقاتهم الداخلية ومع الآخرين..
الحوار -كما يعبر- قبل أن يكون أطراً وهياكل، هو روحية واستعداد نفسي،
يرتبط بوجداننا وقيمنا الإسلامية، التي أسست لهذا الخيار في كل جوانب
وشؤون حياتنا. لذلك فهو لا يستهدف شيوع حالة الفوضى في الآراء والمواقف،
وإنما تضييق مساحات الخلاف والنزاع، وإبراز عناصر الوحدة والائتلاف.
فمن ساحة الحوار تنتج الوحدة وتتعمق موجباتها، وبالحوار تضمحل الخلافات
وتزول أسباب الصراع العنفي.
لذلك -كما يشير المحفوظ- فإننا ينبغي أن نتعامل مع
مفهوم الحوار باعتباره خيارنا الوحيد لتعميق مشروع التفاهم والتعايش.
فالحوار هو طريق إجلاء الحقائق والوصول إلى صيغ لتفعيل المشترك الوطني
والإسلامي والإنساني، وسبيلنا للحفاظ على مكتسبات الأمة والوطن.
ويؤكد المحفوظ على أن الدرس العميق الذي ينبغي أن
نستفيده من تجارب العديد من المجتمعات العربية والإسلامية، التي عانت
ومازال بعضها يعاني من العنف والتطرف والقتل المجاني والحروب العبثية
هو: أن الحوار بكل مستوياته، هو مشروعنا لصون الحرمات، وحل المشكلات،
وإدارة التنوعات والاختلافات. وبالحوار في دوائر الوطن والأمة، يتكامل
منطق الاختلاف ومنطق الاعتراف، وصولا إلى تأسيس دينامية اجتماعية جديدة،
تتجه صوب التطلعات الكبرى للوطن والأمة.
قواعد منهجية في الحوار الوطني
وعند حديثه حول القواعد المنهجية في الحوار الوطني
ألمح إلى أن الوحدة الوطنية ليست مقولة تقال أو خطاباً يلقى، وإنما هي
ممارسة متواصلة ومشروع مفتوح على كل المناقبيات والمبادرات التي تزيد
من رص الصفوف وتوحيد الكلمة وتمتين مستوى التلاحم الوطني. وهذا بطبيعة
الحال، لا يتأتى إلا بالمزيد من السعي والعمل والكدح على تكريس أسس هذه
الوحدة ومتطلباتها في الواقع الاجتماعي... وبالتالي فإن الحوار الوطني
المستديم، هو الذي يمد واقع الوحدة الوطنية بالمزيد من الحيوية
والفاعلية. وذلك لأن الحوار المفتوح على كل القضايا والأمور والذي يدار
بشفافية ونزاهة، فإنه يساهم في تجلية حقائق الوحدة الوطنية، ويجعلها
على قاعدة صلبة من الوعي والمعرفة والإيمان.
والقرآن الحكيم ومن خلال العديد من آياته الكريمة،
أرسى دعائم وأخلاقيات الحوار، وجعله من الحقائق المنبثقة في الكثير من
الآيات القرآنية. وقد سجلت آيات الذكر الحكيم، الكثير من نماذج الحوار،
فهناك حواراً مع رمز الشر والغواية (إبليس)، كما هناك محاورات مع رمز
الخير (الملائكة). وهذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد إلى أن الحوار وفي كل
القضايا العقدية والثقافية والاجتماعية والسياسية متاحاً، ولا مانع من
الحوار مع كل الأفكار والقناعات والتعبيرات. فمنهجية الحوار السليمة -كما
يؤكد- تقتضي منا جميعاً التخلص من كل الرواسب النفسية والثقافية التي
لا تقبل الآخر، وتثير أمامه زوبعة من الشائعات والاتهامات بدون أي سند
وبدون أي مبرر سوى اختلافه معه. فالاختلاف مهما كان شكله أو مستواه، لا
يشرع للإنسان الظلم أو إطلاق الشائعات والاتهامات الرخيصة أو التنابز
بالألقاب أو قذفه بأقذع الشتائم وألوان السباب.
وبرؤية واعية أشار المحفوظ إلى أن المسألة الحقيقية
والجوهرية، ليست خلافاتنا وتباين وجهات نظرنا، وإنما في كيفية إدارة
هذه الخلافات في كل القضايا والأمور. وصرخ فينا يقول: يخطأ من يتعامل
مع مبادرات الحوار بعقلية الخاسر والرابح أو الغالب والمغلوب. وذلك لأن
الوطن كله هو الرابح حينما تسود لغة الحوار وتتكرس تقاليد التواصل،
وننبذ جميعا داء الاستئصال والعنف.
من الحوار المذهبي إلى الوحدة الوطنية
ضمن حديثه في هذا المحور قال المحفوظ: يمكننا القول
أن وجود الإجتهادات التاريخية المختلفة في التجربة العربية والإسلامية،
بإمكاننا أن نجعله وسيلة فعالة من وسائل التأصيل لواقع التعدد
والاختلاف في واقعنا العربي والإسلامي المعاصر. كما بإمكاننا أن نجعله
وسيلة تدميرية لكل القواسم المشتركة التي تجمع أبناء الوطن والأمة
الواحدة. وحول مبادرة صاحب السمو الملكي ولي العهد حول حوار المذاهب
الإسلامية، قال: إننا جميعاً بحاجة أن نتعامل معها باعتبارها من
المبادرات الحيوية التي تزيدنا قوة، وتمنع كل المحاولات الحاقدة التي
تسعى إلى دق اسفين بين مكونات مجتمعنا وأمتنا. وفي هذا السياق أكد على
مجموعة من العناصر هي:
1- إن تمتين أواصر الوحدة الوطنية، بحاجة إلى
الانفتاح والتواصل النوعي مع مختلف المدارس والمذاهب الإسلامية
المتوفرة في مجتمعنا، وذلك لإثراء واقعنا وتطوير وحدتنا وإنجاز فرادتنا
في البناء والتطوير.
2- إن الحوار والتواصل بين مختلف المدارس الفقهية
والمذهبية في الدائرة الوطنية، بحاجة إلى تشكيل مناهجنا التربوية
والتعليمية على قاعدة هذه الضرورة والمنهجية. إذ أننا ندعو على المستوى
المنهجي والتربوي الانفتاح على كل الاجتهادات والاستفادة من كل
المنجزات المعرفية بصرف النظر عن منبتها المذهبي أو الفقهي. إننا نتطلع
إلى ذلك اليوم الذي تسود فيه دراسات الفقه المقارن في معاهدنا
ومؤسساتنا العلمية والتربوية.
3- إن الحوارات المذهبية لا تستهدف المماحكة
الأيدلوجية والمذهبية والدخول في متاهات التاريخ ودهاليزه، وإنما من
أجل توفير مناخ ملائم من التفاهم المتبادل وتوسيع المساحات المشتركة
وتطوير أسباب الوئام والالتحام الوطني.
وهذا بطبيعة الحال -كما يشير- لا يعني عدم التطرق
والحديث في المسائل العلمية والفقهية والتاريخية محل الاختلاف والتباين.
ولكن ما نريد قوله أن التطرق إلى هذه المسائل وغيرها، يتم على قاعدة
الحوار العلمي/ الموضوعي الذي يبتعد عن لغة السجال، ولا يتوخى إلا
المزيد من المعرفة المتبادلة.
وأكد المحفوظ على أن الحوارات المذهبية والوطنية،
تفتح الطريق لكل الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لكي تشارك بمسؤولية في
بناء الوطن وتعزيز وحدته الداخلية. فالحوارات بمختلف عناوينها
ومستوياتها، هي من أجل إثراء مضمون الوحدة، وإخراج هذا المفهوم من
الرؤية الشوفينية، التي لا ترى في الوحدة إلا التوحيد القسري للناس في
قالب ورؤية واحدة. إن هذه الرؤية الشوفينية، ومن منطلق التجارب
السياسية والاجتماعية العديدة، لم تنتج إلا المزيد من التشظي والتفتت
والتجزئة.
من أجل ميثاق جديد للوحدة الوطنية
حول هذا المحور شدد المحفوظ على أن الوحدة الوطنية
اليوم، بحاجة إلى رؤية جديدة وميثاق وطني حديث، يستوعب متغيرات الواقع،
ويستجيب إلى تحدياته وهواجسه. على أن يأخذ بعين الاعتبار العناصر
التالية:
1- طبيعة النظام السياسي والاجتماعي والمرجعية
الإسلامية، حيث أنها من الثوابت العليا التي تستمد كل القوى والتعبيرات
شرعيتها ووجودها من قبولها بالمرجعية الإسلامية واحترامها إلى
مقتضياتها ومتطلباتها. ولكن من الضروري أن ندرك جميعا أن استناد الجميع
إلى المرجعية الإسلامية بما تشكل من قيم ومبادئ خالدة، لا يعني بأي حال
من الأحوال قسر الناس على رؤية وفهم واحد لهذه المرجعية. إن الميثاق
الوطني ا لمطلوب، ينبغي أن يؤكد ويثبت مرجعية الإسلام (الكتاب والسنة)،
ولكن هذا لا يعني عدم القبول بقراءات متعددة ومنضبطة بضوابط الاجتهاد
والفهم السليم للإسلام.
فمجتمعنا [السعودي] يحتضن سبعة مذاهب فقهية إسلامية،
وإن مقتضى المشترك الوطني يلزمنا بتوفير كل مستلزمات الاعتراف
والاحترام لهذه الاجتهادات والتعبيرات الإسلامية، وفسح المجال القانوني
والثقافي والاجتماعي لها، لكي تمارس دورها في إثراء الوطن وتعزيز وحدته
الداخلية.
2- إن من أهم التحديات التي تواجه فضائنا الاجتماعي
والوطني، هي طبيعة العلاقة والموقف من منجزات العصر السياسية والثقافية
والحضارية.. ولا ريب أن هذا التحدي، لا يمكن مواجهته إلا بمصالحة
حقيقية وجادة بين الإسلام والديمقراطية. وذلك لأن الإسلام هو المكون
الأساسي لهويتنا ووحدتنا، كما أن الديمقراطية بقيمها وإجراءاتها
وآلياتها، هي خيارنا الممكن للانعتاق من مآزقنا وأزماتنا.
وتحدث المحفوظ بصوت مسموع ليقول: إن الديمقراطية
ليست شعاراً يرفع، بل هي برنامج عمل متكامل، يتواصل مع كل حقائق
المجتمع، ويحملها مسئولية العمل على تصحيح الأوضاع وتطويرها الدائم نحو
الأحسن. وإن طبيعة الظروف والتحديات التي تواجهنا، تتطلب تجديد الوفاق
الوطني، وتفعيل الحياة السياسية، وتطوير تجربتنا باتجاه الديمقراطية
والحرية.. وذلك عبر إدخال نظام الانتخاب المباشر للكثير من مؤسسات
وهياكل الدولة والمجتمع، وصياغة دستور وطني، يحدد الحقوق والواجبات،
وينظم عمل المؤسسات، ويوفر الأرضية القانونية والدستورية لانطلاقتنا
الوطنية الجديدة.
3- إن بناء دولة حديثة، عصرية، مدنية، تجسد قيم
الإسلام الأصلية ومنجزات الحضارة الحديثة، بحاجة إلى تطوير علاقة مؤسسة
الدولة بمواطنيها. بمعنى أن تكون الدولة دولة للجميع بدون استثناء،
وتكون مؤسساتها وهياكلها ومناصبها ومسؤولياتها متاحة للجميع دون تحيز
لفئة أو تهميش لأخرى. بحيث تكون مؤسسة الدولة على علاقة مباشرة
بمواطنيها بدون وسيط قبلي أو مناطقي أو مذهبي. فهي دولة جميع المواطنين
بصرف النظر عن أصولهم القبلية ومنابتهم الأيدلوجية والمذهبية. من هنا -يضيف-
فإن الدولة بمؤسساتها المتعددة، تتحمل مسؤولية كبرى في تعزيز مشروع
الوحدة الوطنية. فعدالة الدولة وانفتاح مشروعاتها ومؤسساتها على كل
المواطنين، هو أحد أعمدة تعزيز الوحدة الوطنية.
كما أكد المحفوظ على أن الدولة بحاجة أن تمارس
عملية نقد ذاتي لاداءها وممارساتها في هذا المجال، حتى يتسنى لها تطوير
أداءها وانفتاحها وتواصلها الدائم مع مختلف تعبيرات الوطن. ولعلنا -كما
يؤكد- لا نجانب الصواب حين القول: أن قوة الدول وعزتها ، يقاس بمدى
تمثيلها لمواطنيها. فإذا كانت دولة المواطنين جميعا، فإنها ستمتلك كل
أسباب القوة والمنعة والعزة. أما إذا مارست الإقصاء والنبذ لبعض
مواطنيها، فإنها بذات القدر ستخسر من قوتها ومنعتها. لذلك فإننا نتطلع
إلى أن تكون الدولة دولة للجميع في الحقوق والواجبات والمسؤوليات
والخدمات.
ومن أجل تأسيس وحدة وطنية صلبة ومتينة، اقترح
المحفوظ كخطوة أولى لإنجاز ذلك، عقد مؤتمر وطني عام يضم جميع الفعاليات
والقوى والتعبيرات، ويناقش بحرية وشفافية كل القضايا والأمور المتعلقة
بحاضر الوطن ومستقبله. ويتوج هذا المؤتمر حواراته وأنشطته ببناء ميثاق
جديدة للوطن في دوائره المتعددة، حيث يحدد نمط العلاقات الداخلية
المأمول بين مكونات المجتمع، ويعزز ثوابت الوطن، ويبلور استراتيجيات
البناء الوطني في حقول الحياة المختلفة.
![](images/049.jpg) ![](images/050.jpg)
hahqa@yahoo.com |