عن الإمام علي (عليه السلام) (أحبب حبيبك هوناً
ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون
حبيبك يوماً ما)..
صحيح أن الحب مفتاح السعادة، فولاه لما تذوق
إنسان غبطة الوجود، ولا انتشى بخمرة الحياة، فنحن مدينون للحب لا لسواه
بتلك الومضات الخلابة التي تكشف لنا آفاقاً رحبة تتألق بأشهى الآمال
والأماني، وتسمو بنا إلى حيث نفلت من جاذبية الزمان والمكان، فلا هموم
ولا أثقال، ولا شكوك ولا مخاوف، ولا بدايات ولا نهايات، بل ديمومة ثملى
بغبطة الدوام.
ثم الحب هو ذوبان المحب في محبوبه، وذوبان
الأثنين في الكائنات؟ إنه الشعور بأن محبوبك هو الكون والكون محبوبك.
فالإثنان وحدة شاملة كاملة، وإنه من ذلك الكون بمثابة الروح من الجسد،
وإنه جسد كامل وروح كامل، لذا الإسلام بما أنه دين خالد قائم على أساس
الفطرة والإشباع الصحيح لكل الاحتياجات الإنسانية اهتم بموضوع حب
الآخرين واعتبر ذلك أمراً مقدساً.
إنه يرى كل الأفراد ترجع إلى أصل واحد، ويرفض كل
الامتيازات الخاطئة والعنصرية منها والقبلية والمادية وغيرها، فما دام
كل الناس مخلوقين لله وقد ولدوا جميعاً من أب واحد وأم واحدة، فهم أهل
للاحترام والمحبة والهداية.
ولهذا صرح النبي (ص) بقوله: (تحبب إلى الناس
يحبوك)
وأيضاً سئل النبي الأكرم (ص) (من أحب الناس إلى
الله؟ قال: أنفع الناس للناس).
ولكننا عندما نكون قاصرين عن بلوغ الحب الكامل،
لتديننا مع الحب بدين البغضاء والكراهية، وعين البغض والكراهية عمياء،
فعلينا أن نكون حذرين في تعاملنا مع الحب لا إفراط ولا تفريط وهذا
الاعتدال ما يوجهنا إليه الإمام علي (عليه السلام) بقوله: فيزيح
الغشاوة عن أعيننا ويرينا رحابة وقداسة ساحة الحب الخالص، فبعد إعداد
العدة وتهيئة النفوس لتكون قابلة لدخول ساحة الحب، يوجهنا إلى الرفق في
الدخول لندرك أن الحب قوة شاملة لا تقبل الحصر والتجزئة، فالحب حب كامل
إذا تناول جسد الكون الكامل.
فمن أحبه بكامله كان حبه كاملاً وكان مبصراً
أبداً، ومن أحب بعضه دون بعض كان حبه مبصراً على قدر ما يحب وأعمى على
قدر ما يبغض، ذلك لأن الحب نور والبغض ظلمة.
فلا نبغض الحبيب لأول وهلة من اقتراف الخطأ، بل
نتعلم أن نسامحه أبداً ولا نضحي بتلك الومضة لأجل نزوة غضب فيفرغ من
وجاء القلب آخرة قطرة حب ليحل محلها الحقد والبغضاء التي ما تلبث أن
تحرق كل ما بناه الحب بلحظات.
فالحب الذي بالأمس أستطاع أن يحول القرد غزالاً،
والقبيح جميلاً، والضعيف قوياً، والخشن ناعماً والقاسي ليناً، والمحدود
بغير حدود، وحوّل اللمحة إلى أبدية والأبدية إلى لمحة، والفضاء بكل ما
فيه سرير دافئ وثير وجعل من الصعاليك ملوكاً، ومن الشياطين ملائكة،
تراه اليوم قد أعماه غشاوة الكره والبغضاء، فلا يرى إلا الشر والحقد،
ولا يسعى إلا للانتقام ولا يشفي غليله إلا النيل من حبيب الأمس، فلا
يزرع إلا الشوك ولا يفهم إلا الألم يعصر قلبه ويحول حياته إلى جحيم لا
يطاق وعند ذلك الطامة الكبرى أما يهلك نفسه أو ما يقابله.
لذا عندما قال الإمام علي (ع) أحبب حبيبك هوناً
ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك
يوماً ما)
فكماته هذه تصدر عن حكيم خبير بنفسيات البشر
واختلاجاته فلا إفراط في الحب ولا في البغض وهذا في العلم الحديث ما
يدعونه (ريجيم عاطفي)
حيث الإسراف في الحب صفة تشيع بين المحبين في
الشرق، على العكس من المحبين في الغرب الذين يحبون بقدر، ودائماً ما
يقدمون النصيحة لمحب رومانسي قادم إليهم من الشرق بألا يحب بإسراف وبأن
يقتصد في حبه حتى لا يكون الألم رفيقه.
يؤكد مستشارو العلاقات الاجتماعية أن الإسراف في
المشاعر يسبب ألماً وتعاسة لمن يحب وقد يضر في النهاية بالمحبوب، وأن
العلاقة الشخصية التي تدمر الصحة العاطفية تعني أن صاحب العلاقة مريض
بالإسراف في الحب وعليه أن يعالج من هذا المرض.
والمسرف في مشاعر الحب يكون في العادة أحد أفراد
عائلة مفككة أهملت في تلبية احتياجاته الشعورية عندما كان طفلاً أو
شاباً صغيراً، ولذلك فهو يحاول سد ذلك النقص في داخله عن طريق الاعتناء
المبالغ فيه بالآخرين وخاصة بالشخص الذي يكن له مشاعر الحب، ولأن هذا
الشخص لم يستطع في الماضي حمل والديه على التغيير لكي يجعلهم قادرين
على إشباع احتياجاته الشعورية فهو يحاول جاهداً تغيير من يحب عن طريق
إغراقه بمشاعر الحب.
والشخص المسرف في الحب يبذل في الحب كل ما في
جهده لإرضاء الآخرين لأنه يفتقد الحب في كل علاقاته الخاصة، ويخشى
الهجر ويبذل كل ما وفي وسعه لكي لا تنتهي علاقاته الاجتماعية والعاطفية
بالفشل، وهو على استعداد أيضاً لتحمل أكثر من 50% من المسؤولية واللوم
عن كل علاقة تفشل.
ولدى المسرف في الحب رغبة دفينة في أن تكون له
السيطرة على الآخرين وذلك من خلال بذل جهد أكبر من الآخرين في مساعدتهم
ورعايتهم، كما أنه ينجذب للأشخاص الذين تحوطهم المشاكل من كل جانب لأنه
يدمن الشعور بالألم وكذلك ميله الشديد للاكتئاب.
إن الإسراف في الحب يتضح في ميل صاحبه إلى
الدخول في علاقة غير مستقرة وفي نفوره من الشخص العطوف الذي يعتمد عليه
يعد مرضاً نفسياً لا بد من علاجه والسيطرة عليه قبل أن يتسبب في هدم
صاحبه.
الإسراف في الحب كالإسراف في الطعام يسبب السمنة
العاطفية وما تسببه من أمراض.. الريجيم ضروري في الأكل.. وفي الحب.
ولكن هناك حب لا مجال للكلام عن التفريط فيه،
لأنه كلما أزداد حباً ازداد شوقاً وولهاً وازداد عطشاً وظمئاً، أجل إنه
الحب الحقيقي الخالد الذي منه ينبثق كل حب حب الله عز وجل إليك كلمات
الإمام زين العابدين (ع) في مناجاة المحبين.
(إلهي مَنْ ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك
بدلاً، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولاً، فأجعلنا ممن اصطفيته
لقربك وولايتك وأخلصته لودك ومحبتك، وشوقته إلى لقائك، ورضيته بقضائك،
ومنحته بالنظر إلى وجهك وحبوته برضاك وأعذته من هجرك وقلاك، وهيمت قلبه
لإرادتك، وفرغت فؤاده لحبك ورغبته فيما عندك، وألهمته ذكرك وأوزعته
شكرك، واخترته لمناجاتك وقطعت عنه كل شيء يقطعه عنك.
يا منى قلوب المشتاقين ويا غاية آمال المحبين
أسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يوصلني إلى قربك وأن تجعلك أحب إلي
مما سواك، وأن تجعل حبي إياك قائداً إلى رضوانك وشوقي إليك زائداً عن
عصيانك...) فلا يرى شيئاً إلا ويرى الله عز وجل معه وقبله وبعده، تلك
هي محبة العارفين. |