ثمة مفارقة ستغدو في المستقبل مشهداً لأخطر
الأزمات في تاريخ البشرية وسيقف علماء الاجتماع والاقتصاد والسياسة
بدهشة لما هو تأثير المياه على المجتمعات هل حقاً سيقاس حضارة وتقدم
بلد ما بقدرته على تأمين الحد الطبيعي للاستهلاك فمجموعة بلدان الغربية
المتقدمة، التي لا تمثل سوى 12% من سكان العالم، تستهلك 85% من إجمالي
حجم المال المستهلك سنوياً في العالم، فالمواطن الأمريكي يستهلك 700
ليتر من الماء يومياً بينما يتدنى استهلاك المواطن الأفريقي إلى 30
ليتر سنوياً، ويذكر أن استهلاك الماء للاستعمال المنزلي في الدول
الصناعية 23% والزراعية 32% والصناعة 45% من إجمالي الاستهلاك أما
البلدان النامية الكبرى مثل الهند والصين والمكسيك هو للزراعة، 90%
مقابل 6% للصناعة و4% للاستعمال المنزلي من إجمالي الاستهلاك واعتبر
المدير العام لليونسكو كويشيرو ماتسورا أن شح المياه هو أكبر خطر يهدد
الكرة الأرضية، ويتوقع خبراء المنظمة الدولي أن تتناقص حصة الفرد من
المياه بنسبة 80% على مدى جيل (50) عاماً ويشير تقرير الأمم المتحدة
أنه بحلول عام 2050 سيكون نصف سكان العالم 9.3 مليارات نسمة في خطر عدم
الحصول على المياه وأن 1.86 مليار في 49 دولة هي الأقل نمواً في العالم
لن يحصلوا إلا على أقل من 50 ليتر يومياً وأن 54% من المياه العذبة
تستغل اليوم وستكون النسبة 70% في 2025 وأن النمو المدني سيكون عامل
ندرة وتلوث للمياه.
وطبقاً لتقديرات الأمانة الدولية للماء، أن ربع
البشرية اليوم أي نحو 1.5 مليار نسمة، لا منفذ لهم إلى ماء الشرب الصحي
كما أن أكثر من نصفها، أي نحو 3.5 مليار نسمة لا منفذ لهم إلى خدمات
الصرف الصحي ولا يستفيدون من أية معالجة للمياه المستعملة.
وأكثر الأوضاع إنذاراً بالخطر وضع أفريقيا، فنصف
سكانها الذي يربو تعدادهم اليوم على 865 مليون نسمة معرضون لأمراض ذات
صلة، من حيث منشأها، بالماء، فثمانون مليون أفريقي معرضون للإصابة
بالكوليرا، والعدد المسجل رسمياً لحالات الإصابة بالتيفوئيد هو 16
مليون إصابة سنوياً. وطبقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية فإن 15
مليون شخص في العالم يموتون سنوياً من جراء الشرب من ماء غير صالح
للشرب وبمعدل 1400 حالة وفاة يومياً، و4 ملايين طفل يموتون قبل بلوغ
السنة الثانية عشرة، ففي كل ثماني ثوان يموت طفل؟!!
وعلى صعيد التلوث فالمصادر الرئيسية للماء العذب
محصورة بثلاثة: الأمطار والأنهار والطبقات المائية الجوفية، والأولى
مصدر تجدد الثانية والثالثة فـ60% من أصل 40 ألف مليار متر مكعب من
المتساقطات سنوياً على الكرة الأرضية تهطل فوق أراضي 9 دول فقط هي:
البرازيل – الصين – كندا – الولايات المتحدة –
اندونيسيا – روسيا – الكونغو، أما في محيط البحر الأبيض المتوسط
فتراجعت غزارة الهطول منذ أعوام وما زال الوضع يتفاقم وينذر بعواقب
خطيرة.
والأخطر من ذلك هذا التجدد يتم في شروط تلويثه
متفاقمة، فالنمو السكاني المذهل خلال نصف القرن الماضي أقتضى توسعاً
مذهلاً أيضاً في الإنتاجية الزراعية، وهذا التضاعف في الإنتاجية
الزراعية نحو ثلاثة عشر ضعفاً خلال أربعين سنة أقتضى توظيفاً هائلاً
للأسمدة الكيماوية ولمبيدات الحشرات، وهذا تترسب بقاياها غير القابلة
للهضم في الأنهار وفي طبقات المياه الجوفية.
ففي فرنسا تقدر حجم ما تصبه الأنهار في البحار
بنحو 433 طن من النترات و44 ألف طن من الفوسفات في السنة وكذلك البلدان
النامية تعاني من تلوث مائي ناجم عن الضغط المتزايد للنمو السكاني (فنهر
الغانج) هو اليوم واحد من أكثر الأنهار تلوثاً في العالم (نهر مقدس عند
الهنود) بسبب 500 مليون نسمة من سكان الهند الذين يعيشون على ضفافه
والذين لا تتوفر لديهم أية تجهيزات للصرف الصحي.. يرمون فيه 1.3 مليار
ليتر من المياه المستعملة، وكذلك ينطبق على النهر الأصفر في الصين،
فعدا عن نفايات 400 مليون نسمة ممن يعيشون على ضفافه، فإنه يعاني من
فرط استعمال لمياهه للري الزراعي ومن فرط تلويثه بالنفايات الصناعية..
وقدر حجم النفايات التي تسوقها مياهه بنحو 1.6
مليار طن في السنة يترسب في عمق سريره 200 مليون طن مما يتسبب في
ارتفاعه بمعدل 10 سنتمترات سنوياً، وهناك ظاهرة تملح وجفاف تهدد بضرب
طبقات المياه الجوفية على المدى المتوسط، ولاسيما في الشرق الأوسط التي
تتعرض طبقاته المائية لعملية استنزاف حقيقي يرشحها حسب تقديرات الخبراء
الأيكولوجين للتجفف التام خلال الخمسين سنة القادمة، والوضع أكثر خطورة
في منطقة الشرق الأقصى الآسيوية، فبنغلاديش التي تقل مساحتها عن مساحة
سورية، تؤوي 145 مليون نسمة، محققة بذلك واحداً من أعلى معدلات الكثافة
السكانية في العالم 1800 نسمة في الكيلو متر المربع الواحد وقد اعتمدت
على المياه الجوفية، بعد الانخفاض الكبير في حصتها من مياه نهر الغانج،
فحفرت خلال 25 سنة الماضية نحو 10 ملايين بئر في 68 ألف قرية على عمق
ما بين 20 و100 متر، وسرعان ما أتضح أن الطبقة الجوفية السطحية ملوثة
بالزرنيخ بمقادير تسبب في 20 ألف وفاة بالتسمم في السنة الواحدة، وقد
اضطرت منظمة الصحة العالمية، التي كان خبراؤها قد نصحوا بحفر تلك
الآباء، إلى الاعتراف في أيلول 2001 وبعد طول مماراة، بأن حياة 35 إلى
75 مليون بنغالي مهددة على المدى المتوسط بكارثة تسمم تلوثي هي الأدهى
من نوعها في العالم وكان بوليفيا قد عانت من تلوث شديد في مياه الشرب
وخاصة العاصمة لاباز.).
وعلى ضوء الأرقام والمعطيات يتأكد أن أزمة
المياه في تدهور مستمر ويدفع الفقراء والدول النامية من حياتهم ثمن
فاتورة إنتاج الأسلحة المدمرة ولتعود إليهم في صراعهم من أجل المطالبة
بحقوقهم الطبيعية. |