في عالم اليوم يضطر العديدون ان يسلّموا بأن
الفتوحات التقنية الجديدة المهمة قد غيرت مؤقتاً ميزان القوى العسكرية
والاقتصادية. وحتى بقاء كوكبنا نفسه اصبح موضوع بحث. ومع ذلك فالعديدون
منا يفترضون انه مهما غيرت التقنية الوسائل التي تمارس الامم بموجبها
مصالحها السياسية الجغرافية، فإن تلك المصالح نفسها تظل على حالها، على
ان هذا الرأي لا يصدق دائماً. ان التطورات المضافة في العلم والتقنية
التي غالباً ما نلخصها بعبارة« ثورة المعلومات »غيرت شكل واتجاه
الاحداث الوطنية والدولية بطرق اساسية.فنحن نشهد ثورة في العلاقات بين
الدول ذات السيادة وفي العلاقات بين الحكومة والمواطنين وبين هؤلاء
المواطنين واقوى المؤسسات الخاصة في المجتمع. ان ثورة المعلومات تشكل
تهديداً عميقاً لبُنى القوى في العالم، ولسبب وجيه. فطبيعة الدولة
وسلطاتها ذات السيادة تتغير بل تتعرض للخطر بطرق اساسية. كما ان خريطة
العالم السياسية الجغرافية يعاد رسمها، فعناصر توازن القوى التي سيطرت
في الاربعين سنة الماضية قد اصابها الخلل بصورة دائمة. كما ان مؤسسات
اخرى في عالمنا، وعلى رأسها شركات الاعمال، تواجه تحديات، بنفس القوة،
لاسلوب عملها وستخضع لتغييرات عميقة مؤثرة. ولاتزال ثورة المعلومات،
رغم كونها اكثر الثورات ذكراً في التاريخ، تُفهم فهماً قليلاً. فالكثير
من التجديدات التي اعلن عنها بأعلى الاصوات، لم يتحقق حتى الآن:
المجتمع بلا شيكات، والمكتب بلا اوراق، والجرائد التي تصل عبر تلفزيون
الكوابل، وطائرة حوامة «هليكوبتر» في فناء خلفي لكل بيت.
يقول ولتررستون في كتابه « افول السيادة»: ينظر
الى ثورة المعلومات عادة على انها مجموعة تغييرات تحدثها تقنية
المعلومات. واهم تغييرين اثنين منها: تقنية الاتصالات الجديدة لبث
المعلومات واجهزة الحاسوب لمعالجتها. فالمعرفة في واقع الامر تعني
الاطلاع على الوقائع والحقائق، او المبادىء عن طريق الدراسة او البحث.
كذا بالامكان اعتبار المعرفة تعبيراً منطقياً لما نطبقه على العمل في
انتاج الثروة، فالمعرفة هي المصدر النهائي لقيمة في عمل. ان ارنباً
يركض طليقاً في حقل ليس ثروة. بل يصبح ثروة نتيجة لمعلومات تطبق على
عمل صياد: معلومات عن مكان الطريدة، وكيفية مطاردتها، وكيفية رمي حرية
او اطلاق سهم وطريقة صنع السهم او القوس او الحرية. ان ما سبق من
المعلومات اذا أُخذت وطُبقت على عمل الصياد، تنتج قيمة، اي غذاء للصياد
ولعائلته او للمجتمع كله. وتجدر الاشارة الى ان لدى الاقتصاديين اسماً
للعمل الذي يقوم به الصياد لتحويل الارنب الى شواء: القيمة المضافة.
وحتى في العصور القديمة، كان قسم كبير من تلك
القيمة المضافة عملاً فكرياً: معرفة الصياد ومهارته. ومع ذلك، كان معظم
القيمة المضافة مادياً اياماً طويلة في الحقل لمطاردة الارنب، وجهوداً
شاقة طويلة الامد في تشكيل حرية او قوس، وشحذ سهم او رأس حرية. وبالطبع،
كان الارنب يوفر القيمة الاصلية للصفقة. ان التقدم الاقتصادي، بصورة
كبيرة، هو عملية زيادة المساهمة النسبية للمعرفة في ايجاد ثروة. فقيمة
سنبلة من حبوب برية يحصدها صيادون كانت مادية بشكل تام تقريباً، هبة من
الخالق سبحانه. وبمجيء الثورة الزراعية، تصبح سنبلة من القمح المهجن
مزروعة في حقول مسيّجة وخاضعة لدورات زراعية ومسمّدة ومرويّة بعناية،
تصبح الى حد كبير جداً انتاجاً مستمداً من العقل. كما ان الثورة
الصناعية طوّرت العملية اكثر عندما زاد الناس من قدرتهم على معالجة
المادة وتشكيلها طبقاً لاحتياجاتهم. وفي زماننا هذا، ازدادت اهمية
مكونات المعرفة لكل التقنيات زيادة واسعة. وكما اشار جورج جلدر فإن
تقنية عصر المعلومات والشريحة الدقيقة ومكونات كل الاتصالات العصرية
الاساسية وتقنية الحاسوب تتألف تقريباً بالكامل من معلومات. ان لتقنيات
المعلومات التي وفرتها الشريحة تأثيراً عميقاً على معدل التقدم في معظم
العلوم. اذ ان الحسابات التي كانت تستغرق سنوات، يمكن القيام بها في
دقائق. والمعرفة العلمية تتضاعف حالياً كل خمسة عشر عاماً تقريباً.
وهذه الزيادة الكبيرة في المعرفة تجلب معها زيادة ضخمة في مقدرتنا على
معالجة المادة بزيادة قيمتها بقوة العقل. ان عالم العمل ودراما الانتاج
الاقتصادي والاساس الجوهري لوجودنا المادي الذي تسيطر عليه منذ عدة
قرون قوى الصناعة العمياء، اصبحت تسيطر عليها الآن تقنيات وعمليات
تتألف من العقل اكثر مما تكون من المادة. وهذه التقنية والعمليات اسرع
واكثر تحركاً، واقل اعتماداً على موارد طبيعية او اجهزة مادية او عمل
بشري مما كانت عليه في الماضي القريب. نحن الآن وسط ثورة تقنية
واقتصادية هائلة ومع ذلك، فنحن معتادون على استعمال المقاييس
الاقتصادية والاجتماعية التي طورت العالم نحو العالم الصناعي والعصر
المتقدم الحديث. حتى اننا قلّما نتوقف لنفكر بأن المقاييس القديمة
للتقدم والانحلال والنجاح والفشل آخذة في فقدان فائدتها. فالكثير من
الهستيريا الاقتصادية اصبحت خلفية متواصلة لمناقشات مقاييسنا
الاقتصادية.
ويبدو ان الفائدة المتناقصة لهذه المقاييس هي
احد الاسباب التي جعلت العديد من اقتصاديينا الجيدين جداً مخطئين بشأن
اتجاهات الاقتصاد المستقبلية. ان اقتصاد المعلومات هو اقتصاد عالمي
بصورة لا يمكن التحكم به، ويعود هذا جزئياً الى ان التجارة بالمعلومات
التي تقيّدها الجغرافيا او تثقلها المادة قليلاً هي عالمية. واقتصاد
عالمي حقيقي جديد، على عكس اقتصاد الماضي القريب، متعدد الجنسيات،
يتطلب تنازلات من السلطة الوطنية. اقتصاد كهذا، لا يمكن احتواؤه حقاً
او السيطرة عليه باستراتيجيات تجارية او وقائية. لقد حولتنا التقنية
الى مجتمع «عالمي» بالمعنى الحر في للكلمة. وسواء كنا مستعدين لذلك ام
لا، فإن لدى الجنس البشري، الآن سوقاً مالياً ومعلوماتية دولية متكاملة
قادرة على تحويل الاموال والافكار الى اي مكان على هذا الكوكب خلال
دقائق. فرأس المال سيذهب الى حيث توجد حاجة اليه، ويبقى حيث يعامل جيداً.
كما ان تدفق المعلومات لن يختفي، بل سيزداد، فسلسلة جديدة من
الابتكارات في اجهزة البث التليفزيوني تحوّل العالم كله الى سبق صحفي
محلي. فقد اصبحت اخبار التليفزيون طريق معلومات ذات كفاءة عالية، حتى
ان التليفزيون تطور ليصبح قوة في الشؤون الدولية وسلاحاً في
الدبلوماسية. ورغم ما كُتب وقيل عن ثورة المعلومات، الا ان العديد من
الناس لم يواجهوا حتى الآن كيف غيّرت هذه الثورة الاقتصاد. في الوقت
الذي يدركون فيه ان اجهزة الحاسوب والاتصالات السلكية واللاسلكية قد
اصبحت قوى اقتصادية فعالة. ان العالم يتغير، ليس لأن مشغلي اجهزة
الحاسوب حلّوا محل الكتبة الطابعين واصبح بامكانهم انتاج عمل اكثر في
وقت اقل، بل لأن الكفاح البشري للبقاء والازدهار يعتمد الآن على مصدر
ثروة جديد كلياً، الا وهو المعلومات. اذن الفرق بين الاقتصاد الصناعي
القديم واقتصاد المعلومات الجديد هو فرق كمي، وليس مجرد فرق نوعي ومن
ثم، فإن تقنيات المعلومات قد اوجدت اقتصاداً جديداً بصورة كلية، اقتصاد
معلومات يختلف عن الاقتصاد الصناعي، بنفس درجة اختلاف الاقتصاد الصناعي
عن الاقتصاد الزراعي. وعندما يتغير مصدر ثروة الامم تتغير سياساتها
كذلك. لقد غيرت الثورة الصناعية مصدر الثروة، فحوّلت اكوام الصخر
والمواد الخام الى ثروات من الفولاذ والبخار. وحتى عندما اعطت قيمة
لموارد طبيعية كانت في السابق مهملة، زاد التصنيع بدرجة درامية قوة
الدولة الوطنية، ليس فقط بزيادة ايراداتها، بل بتوسيع سلطتها التنظيمية
والاسلحة اللازمة للسيطرة على هذه الموارد والمناطق التي تضمها ايضاً.
ختاماً اقول: ان العالم بحاجة ماسة الى نموذج من
اقتصاد معلوماتي ستخطط اشكاله ووظائفه.فقد اصبحت الآن القواعد والعادات
والمهارات والمواهب اللازمة لكشف وتصيّد وانتاج وحفظ واستغلال معلومات،
اهم قواعد وعادات ومهارات ومواهب الجنس البشري.
باحث تقني
سورية - مصياف
www.srmdnet2.jeeran.com
fdhisham@scs-net.org |