أدعي أن الدين في جوهره هو " فن صياغة الحياة "
وأبني هذا الإدعاء على جملة من الحقائق أهمها أن الدعوة الإسلامية التي
بشر بها خاتم الأنبياء قلبت منظومة الحياة السائدة ، وطرقت أبوابا لم
تكن مطروقة سابقا ، وحفزت الأفراد على إتخاذ مواقعهم في الساحة بجدارة
. كما تضمنت مجموعة هائلة من مفاهيم حضارية خلخلت من المفاهيم التي
كانت السائدة ، وأحدثت دويا هائلا في الجزيرة العربية بداية والعالم
تاليا ، والمطلع على النصوص الدينية يُلاحظ هذا المقدار من الإهتمام
بتواصل عملية التغيير ، والتحرك نحو الأفضل .
إن كان ما قلناه صحيحا فهو يشير بصورة واضحة إلى
الخلل الكبير الذي اعترى منظومة المفاهيم في مجتمعاتنا الإسلامية ، من
ركون إلى التقليد ومحاربة رياح التجديد ومقاومة حركة التطوير ، فالسلطة
تعتقد أن التطوير سيكون على حسابها ، إذ ربما يستدعي إزاحة السلطة
التقليدية كمقتضى من مقتضيات التطور ، والقوى الإجتماعية والسياسية في
بداية انطلاقتها تتبنى مفاهيم التغيير مقابل السلطة ، وتُشجع كل
المساعي الباعثة على التغيير ثُم لا تلبث بعد سنوات أن تتجمد في أطر
تقليدية ، وتقاوم محاولات التجديد ، وتقلل من قيمة الإختلاف ، وتُعلي
من قيمة التوافق بالرأي ولو باستخدام القوة أو عبر استبعاد المختلفين
وبمبررات " وحدوية " أو " شرعية " أو " حركية " .
فمجتمعاتنا لاتزال بعيدة عن تقاليد إحترام "
التفكير المختلف " رغم انه أساس نمو الذهنية الإبداعية ، فثمة رغبة
جامحة تتلبس الجميع في تسيير حركة المجتمع على رتم واحد ، بالصورة التي
يكرر فيها أحدنا الآخر ، في التفكير وأسلوب الحركة ، وطريقة الحزن
والفرح .
يكفي مثلا أن تتجرأ كصاحب رأي على عرض فكرة
جديدة وغير متفق عليها ، حتى تتناولك السهام من كل حدب وجهة ، فرأي
واحد مختلف كفيل بأن يفقدك الكثير من العلاقات الأخوية والإحترام
المفترض بين أهل العلم ، ربما من باب " تأديبك " !! وهو ما يدفع بالفرد
إلى تلمس المزاج الإجتماعي العام قبل أن يدلي بدلوه في أي موضوع محل
إثارة وحوار ، وربما يضطر لاحقا للحديث بأكثر من لسان حسب مناخ اللقاء
.
هذا المناخ الذي يجعل من " الإبداع " في
مجتمعاتنا .. " تعيش إنت " !! ويبني مجموعة من المتماثلين الذين ليست
لهم قيمة فعلية " كمجموع " في السلم الحضاري ، إن " صياغة الحياة "
مسألة جوهرية في المجتمعات الإنسانية بصورة عامة والإسلامية بصورة خاصة
، ورغم ذلك فإن طريق " الإبداع " و " التَّميز " لا يزال يحتوي على
نتوءات عقلية وذهنية ، فمنذ النشوء وحتى النهاية يدور الفرد في
مجتمعاتنا بدائرة تدلل على أننا انتصرنا للتقليد السلبي ومنهجية
التبعية .
المجتمعات الغربية ( على سبيل المثال ) حسمت
الأمر مبكرا لصالح إكتشاف ورعاية الموهوبين والموهوبات ، وقبل أيام
عرضت قناة فضائية برنامجا تم الحديث خلاله عن عروض تنافسية عالية
المستوى قدمتها كل من الولايات المتحدة و كندا لطفل لبناني الأصل -
كندي الجنسية - يبلغ الخامسة من العمر ، للتكفل برعاية موهبته الفذة ،
وهذا الطفل نبغ مبكرا ، وتحدث ثلاث لغات أساسية ، الفرنسية والإنجليزية
والعربية ، وأتقن الرياضيات ، وبرع في إستخدام الأطلس ، ويردد أسماء
الله الحسنى كاملة في أقل من 90 ثانية ، وبينما قدمت كندا عرضا
بإستمرار احتضانه وتوفير كافة سبل إستمرار واستثمار نبوغه ، عرضت
الولايات المتحدة على الطفل منحه الجنسية الأمريكية و استقباله في إحدى
مدارس الموهوبين التي سارعت بتقديم عروضها المغرية ، وعرضت على أهله
إقامة دائمة وفرص لحياة أفضل .
صحيح أن الإبداع عمل ذاتي بالدرجة الأولى ،
ولكنه أيضا إجتماعي بدرجة كبيرة ، وضمن الترتيب العام يمكن تقديم الدور
الإجتماعي على الفردي على إعتبار أن المناخ العام هو الحاضن الأساسي
للمبدع ، فالأسرة تلعب بالإضافة إلى المدرسة والمجتمع بكل قواه
وفعالياته دورا أساسيا في خلق ملكة الإبداع عند الفرد ، والخطوة الأولى
في هذا الإتجاه هو تحديد مواهب الطفل منذ بدايات نشوءه الأولى ، وميوله
، وملكاته المختلفة ، والعمل على دعمها وتطويرها ودفع الطفل إلى الأمام
بما يؤهله للإبداع والتفكير بطريقة جذابة ومبتكره .
* كاتب كويتي
AHMED_HJ@HOTMAIL.COM |