جاءت معظم الأيديولوجيات الوضعية في العصر
الحديث داعية أولاً مجتمعاتها المحلية إلى اعتناقها قبل أن يعمم
بعضها على المستويات الإقليمية والعالمية، فبدلاً من أن تكون تلك
الأيديولوجيات مكملة بعضها للبعض ومعترفة بالآخر ضمن عمليات الصراع
البديهي بين الأفكار المبني على حرية اختيار المعتقد الايديولوجي لكن
شيئاً من هذا النفس السلمي لم يشد بين المؤدلجين حتى أن بعضهم قد
اخترق الآخر لأجل الإيقاع به في نهاية المطاف ومع سقوط وانهزام
العديد من تلك الايديولوجيات عملياً لسبب ما، إلا أن السؤال هل أن كل
تلك الأيديولوجيات كانت صادقة حقاً في ادعاءاتها أم أنها امتازت
بالتموّه من أجل استحصال مكاسب ضيقة؟!
بقي التفكير بطريقة أخرى سائداً بين القادة
المؤدلجين على وجه العموم وهذا ما عرض الديمقراطية في بلدان عديدة
إلى التراجع ثم الانهزام وجاء إلى سلطات العديد من الدول ذات النهج
التعسفي من يدعي بـ(ديمقراطية نظامه) في مسعى سافر لتحدي شعبه. هذا
ويحيط اليوم مفهوم (الديمقراطية) شيء من الغموض وبعض المثقفين
يعتبرونه مبدأ لم يعد يصلح حتى للاستهلاك السياسي المحلي بسبب عدم
الالتزام به كلياً فكلما ظهرت أجواء ديمقراطية حقيقية هنا أو هناك
سرعان ما تحرك البعض ضد من يدعي الديمقراطية لاغتيال الديمقراطية
الحقة لذا فإن الغرب يفكر اليوم بسبل توصله لما يسمى بـ(تجديد
الديمقراطية) وبالذات في مجتمعاته الصناعية المتقدمة.
لكن (النسخة المعدلة) من الديمقراطية التي لم
تظهر بعد سوف لن تبقى مسألة قابلة للمتابعة بسبب سيطرة النزعات
الاقتصادية لدى كل مجتمع مؤدلج قبل غيره في المجتمعات. وأن الانطلاق
في التحليل القائل بأن العالم ليس فيه ما يوضح نوع الأدلجة الأفضل
بعد أن فعلت ما فعلت السياسة الدولية السلبية ضمن مرحلة لحرب الباردة
كل ضد خصومه الثقافيين حتى نمى نمط من الديمقراطية المبهمة في معظم
بلدان العالم بعد أن تم سحب الجوهر الإيجابي من مصطلح الديمقراطية
الحقيقية.
والخطاب الديمقراطي اليوم يواجه حالة استياء
من قبل العديد من المجتمعات وخصوصاً وبعد سقوط كتلة الاتحاد
السوفياتي بسبب اختراق بعضها من أفراد قيادة لصالح الغرب وتزامن ذلك
مع فشل الحكومات الاشتراكية من تقديم النموذج الديمقراطي الصحيح ولكن
يمكن القول أن الغرب من جانبه لم يستطيع من الاستفادة حتى الآن من
غياب منافسه السابق عن الساحة الايديولوجية حتى تكاد أن تصبح أدلجة
النظام الرأسمالي على مستوى التعامل العملي في مهب الانتقاد الشديد
إذ تبدو الحالة السياسية الراهنة وكأن الغرب الجديد المستفرد بالعالم
اليوم وكأنه يفتش عن أعداء جدد على الساحة الدولية نتيجة تسابق خطوات
العولمة فيه.
لقد قدمت معظم الايديولوجيات الوضعية السابقة
والمتبقي منها قليلاً الآن نوعاً من المفاهيم عن العدل ومعرفة الحقوق
كنوع من الدعاية فبدون ذكر اسماء وعناوين تلك الايديولوجيات فمعظم
أصحابها ينتهجون سلوك الاستبداد سواء كانت الحركات المؤدلجة قد وصلت
السلطة أم لم تصلها وهذا ما وضعها في موقف لا تحسد عليه حتى أمام
معتنقي العديد من المؤدلجين لنفس الايديولوجية فالذين كانوا يرفضون (شعار
الحرية) ضمن مبادئ ايديولوجياتهم أذاقوا مجتمعاتهم الأمرين.
وظهرت أكاذيب بعض الأدلجات التي ادعت أو ما
تزال تدعي محاربة الظلم، فإذا هي تنتهج الظلم سلوكاً ثابتاً للقوة
والهيمنة لديها، وكأسلوب حديث لتبرير مظالمها ضد شعوبها. وكم ترددت
عبارة (إن الديمقراطية تحتاج إلى دولة قوية) وكم هم الذين تغنوا
بالديمقراطية وفقد مناضلون أشداء حياتهم من أجل انتصار كلمة الشعوب
لكن سمة عالم اليوم كونه تنقصه الجرأة ليسمي الأشياء باسمائها. وإذا
تعتبر الديمقراطية شرط ضروري لأي مجتمع لكن نهوضاً حقيقياً للظفر
بالديمقراطية ما يزال يواجه أعداء تصل أعدادهم إلى جيوش جرارة تدعي
هي الأخرى بأنها تحارب من أجل الديمقراطية في العالم.
ونظرة إلى التاريخ السياسي المعاصر توصلنا إلى
الحقيقة المرة القائلة بـ(أن الثورات أكلت أبناءها) فبعض
الأيديولوجيات قد ركنت مبادئها بعد استلام السلطات السياسية في
بلدانها مع أنها كانت ايديولوجيات قد تضمنت في أنظمتها الداخلية
الدفاع عن المظلومين فإذا هي تحول أدلجتها إلى دساتير تفعل المشاكسة
كل ما تدعيه السلطات المؤدلجة ذاتها المفروض أن لا تقبل أن تكون
أدلجتها وسائل للظلم فتبرير المظالم ليس مسألة يمكن أن يؤيدها أي
مجتمع وأن أخفي ذلك في صدور أبنائه.
|