التمرد على المواقف الإنسانية يكاد يكون نهجاً
ثابتاً لدى أفراد وتجمعات بشرية عديدة أصبحت تعمل في الضوء وأمام
الملأ وهي لا تتهيب من أي شيء إذ يلاحظ أنها تتعامل بأنانية مقيتة مع
من لم يستطيعوا الدفاع المشروع عن أنفسهم، وهم الأطفال الذين يسرق
منهم الكبار البراءة وحسن المصير وإشراقة المستقبل.
من بين الفئات الاجتماعية الواقعة تحت حصار
ورحمة الكبار غير الأسوياء هو شريحة الأطفال وبالذات منهم أولئك
الذين اتخذوا من الشوارع والطرق العامة مأوى أو مكاناً للاسترزاق
والعيش فقسوة الحياة والظروف قد دفعتهم إلى هذا الدرك الصعب فقد
نالهم ظلم التشرد، إذ أصبحوا يعيشون على هامش الحياة، وما يزيد الأمر
سوءاً أن انفصال الوالدين أحدهم عن الآخر بقرار شخصي من أحدهما أو من
كليهما يفتقر إلى الحكمة هو أحد إفرازات هذه المشكلة عند الأطفال
المشردين ففي تقرير حكومي جديد صدر في لندن مؤخراً أفاد: (أن انفصال
الوالدين هو السبب الرئيسي الذي يدفع الأطفال إلى هجر المنزل) وأوضح
التقرير أيضاً: (أن احتمال هروب الصغار الذين يعيشون مع زوج الأم
يبلغ ثلاثة أضعاف معدلات هروب أولئك الذين يعيشون مع والديهم
الحقيقيين، وقالت الوحدة الاجتماعية في الحكومة البريطانية أن
الوزراء تعهدوا بتقليل حوادث الهروب التي تبلغ (129) ألف مشرد بينهم
(77) ألف طفل سنوياً) ومما أشار له تقرير أن بين (13) ألف طفل تتعدى
نسبة هروب الإناث نسبة الذكور، كما أن نسبة الأطفال البيض الذين
يعيشون في الشوارع تتعدى مثيلتها للصغار السود أو الأسيويين.
وتتزايد معدلات هروب الأطفال من مناطق الريف
والمدينة إلى حد مثير إذ تشير إلى هروب طفل واحد ريفي إلى كل ثمانية
أطفال من المدينة إذ عادة ما يشرعوا إلى الهروب لليلة واحدة وقد تصل
إلى ثلاث ليال وبعضهم لم يعد أبداً.
وثمة أسباب أخرى لها التأثير على أن يصبح
المرء مشرداً في الغرب (مثلاً) فإعلان حق الاستقلال عن العائلة الذي
يكفله القانون الغربي ورفض الأب لصديق يقيم علاقة مع ابنته أو صديقة
مع ابنه وحتى الضغوط الأكاديمية تدفع الأطفال إلى أن ينشأوا (شواذ أو
شاذات)، ومما يؤكده التقرير الآنف: (أن هناك (5) آلاف منهم يعتاشون
على السرقة والتسول والاتجار بالمخدرات والدعارة).
إن مشقة العيش وتكاليفها ما تزال سبباً رئيسياً
يقف وراء ظاهرة التفكك العائلي ومما يلاحظ عند مثل تلك العوائل أن
الدور القيادي داخل الأسرة يرجع للأمهات الذي يأتي على حساب ضعف
الدور القيادي عند الآباء. ويشير إحصاء سعودي حديث إلى: (أن عدد
أطفال الشوارع عبر العالم كان (30) مليون طفل سنة 1986م وارتفع حالياً
إلى زهاء (80 إلى 100) مليون طفل بحسبما اشارت لذلك أصلاً منظمة
الصحة العالمية.
لقد أدت الظروف السيئة المحيطة بفئات الأطفال
إلى توجيه طوابير منهم إلى ساحة العمل فهناك اليوم أكثر من (211)
مليون صبي تتراوح أعمارهم ما بين (5 – 14) سنة مضطرون للعمل في أنحاء
العالم ويكاد أن لا يفلت بلد في العالم من هذه الظاهرة النشاز ولعل
هذا ما شكل سبباً عقلانياً لدى منظمة العمل الدولية للمبادرة بإعلان
يوم 2 حزيران/ يونيو سنة 2002م بـ(اليوم العالمي الأول ضد تشغيل
الأطفال).
ومكائد السياسة الدولية لم تطال الكبار فحسب
بل امتدت إلى تحديد نمط حياة الكثير من الأطفال في العالم وبهذا
الصدد تبين أن بين سنة 1990م و2000م أي خلال العشر سنوات الأخيرة من
القرن العشرين المنصرم قبل زهاء سنتين قد تسببت النزاعات المسلحة بين
الدول في انفصال أكثر من مليون طفل عن عائلاتهم وجند أكثر من (300)
ألف طفل كمرتزقة بينما قتل أكثر من (2) مليون في الحروب الأهلية
المفتعلة في جانب واحد على الغالب وجرح (6) ملايين أو تعرضوا للإعاقة
الدائمة أو لتقطيع الأطراف كما فقد (12) مليون منازلهم وشرد (20)
مليوناً. ومن بين تلك المجاميع أشير بأن أكثر من (700) ألف طفل هم
ضحايا الاتجار بالبشر المرغمين على مسايرة ظروف العبودية. وبهذا
الصدد يقول تقرير أخير صادر عن هيئة الأمم المتحدة إن تزايد الطلب
على الصغار من فتيات وفتيان هو لاستغلالهم للتجارة الجنسية.
والفتيات الصغيرات بسبب جنسهن أكثر عرضة...
للإفساد خصوصاً وأن أكثر من (90%) منهن يعملن كـ(خادمات) منازل مما
يعرضهن إلى الاستغلال وهتك العرض وبالتالي المصادرة الأخلاقية. ولعل
هذا ما تسبب في جانب آخر من المشكلة، من إصابة العديد من الفتيات
اللائي تتراوح أعمارهن ما بين (12 – 17) سنة للإصابة المميتة نتيجة
لحملهن الفيروس (الإيدز).
إن سحق حياة الأطفال في العالم ظاهرة تدعو
للقلق حقاً إذ سرعان ما تضع أولئك الأطفال على جادة الشغب فالأطفال
بذكائهم الفطري يعلمون أنهم ضحايا الكبار الذين لم يقدروا على الأخذ
بالثأر منهم فيتجهون للإيقاع بمن يصغرونهم قليلاً في السن وأمام هذه
الحالة يبدو في عيون أولئك الصغار أن كل الأبناء والبنات جانحون وهذا
الشعور المأساوي يخفف عنهم شيئاً مما هم عليه من ظروف غير طبيعية.
ولعل هذا هو أحد الأسباب الذي يجعل الوسواس القهري عند أولئك الأطفال
أخف درجة رغم ما يعتريهم من شعور اليأس من منقذ قد ينتشلهم من واقعهم
المرير باعتباره آخر أمل لدى العديد من هؤلاء الضائعين.
لعل استغاثات الطفولة تتخذ اليوم في العديد من
البلدان منحىً آخر بمجرد أن يفتقد الطفل لشيء من الرعاية فالطفل وبسب
ضعفه يظل لسنوات عديدة من عمره يطلب مزيداً من الاهتمام دون أن يشعر
ذاته هو ماذا يريد تماماً لذلك فإن الإخلال بحياة الطفل يجعله
عدوانياً أكثر من غيره ففي دراسة أمريكية أخيرة توضح: (أن الأجيال
الجديدة من البنات المراهقات أكثر عدوانية من الصبيان) ويتبين من هذه
الدراسة أن الفتيات الصغيرات اللائي غالباً ما تلمس لديهن الرقة قد
أصبحن عنيفات على حين غرة، وتقول الأرقام الواردة ضمن إحدى الدراسات
الحديثة: (حيث سجلت (20%) من البنات وجود سلوكيات عدوانية عند
زميلاتهن، مقارنة بـ(5%) فقط من الذكور، كما وصفت (30%) من البنات
بأنهن سينتهجن سلوكيات نبذ اجتماعي مقارنة بـ(6%) فقط من الذكور..).
|