متعثرة هي الكلمات وخجلة تلك التي كانت تخرج
من خزيننا اللغوي حين انتدبناها للتعبير عن موضوعنا هذا، لأنها
وعلى الرغم من عددها الغزير وخبرتها التي حصلت عليها عبر السنين
حتى صارت ليس لها نظير، إلا أنها كانت وعلى غير عادتها تبدو عاجزة
هذه المرة.
فأي شئ ستقول وعلى أية مفردة ستعوّل،
عن حضارة أمة اجتمعت في رجل، ورجل كان هو خلاصة العقل البشري، من
عهد الفلاسفة اليونان وحتى هذا العصر، وإمامٌ هو حصيلة تزاوج
وامتزاج العلم الإلهي مع نقاء وطهر وذكاء وفطنة أهل بيت النبوة،
حيث نزل القرآن وحيث مدينة العلم وبابها الواسع الفسيح الذي ما كان
للحيطان!؟.
كان اسمه النهر الصغير، ولكن عقله وعلمه هو
المحيط الذي التقت وتجمعت وتوحدت فيه كل الأنهر والغدران، وعلى
شواطئه رست سفن العقل البشري لكل باحث عن الحقيقة و المعرفة
والعرفان، والتجأت اليه القلوب العطشى لليقين والاطمئنان والأمان،
وكل النفوس الظمأى للحرية والأسوة.
محيط ليس ككل المحيطات فماؤه لم يكن مالحاً
أو أجاجاً، بل كان ولا زال عذباً فراتاً.
رجل كان أول وآخر جامعة بشرية متنقلة، حيث
العقل والعلم صارا قرينين لاسمه فأينما يكون كانا معه يتنقلان،
وحيثما يحل يحلان، وكلما حط الرحال يحطان.
وبعد هذا وذاك كان هو الإسلام في عصره مجسداً
في إنسان، بكل ما فيه من نسك وادب وخلق وإيمان، وعلم وحلم وحرب لا
هوادة فيها على الجور والاستبداد والطغيان، لكونه كان الحارس
الأمين على دين جده(ص) والذي به ختم الله سبحانه الأديان.
في بيت علم النبوة ولد خامس أئمة أهل
البيت(ع) الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)، وفيه نشأ وتربى في حجور
طابت وطهرت، وعلى يد أبيه الإمام محمد بن علي(ع) الذي سمي بالباقر
لأنه وكما قال جابر الجعفي (بقر العلم بقراً)، أي شقه شقاً، وأظهره
إظهاراً.. تتلمذ ونهل العلوم التي ورثها عن أبيه وأجداده.
عاش الإمام الصادق(ع) في فترة انتقالية
خطيرة من التاريخ الإسلامي، وهي فترة سقوط الدولة الأموية وقيام
دولة بني العباس، وعلى الرغم من أن الأخيرة كانت لم تزل في بداية
التشكيل والتكوين إلا أنه ومنذ بداية عهد مليكها الثاني أبي جعفر
المنصور(الدوانيقي)، الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لتلك الدولة، فقد
شهدت الساحة الإسلامية صراعاً مريراً بين تيارين وعلى نوعين من
أشكال الصراع؛ التيار الأول هو تيار ورثة علم النبوة وأهل بيته
الطاهرين، حراس الرسالة الإسلامية وأبناء الدعوة المحمدية، الذين
واجهوا تيار الثورة المضادة للإسلام منذ استيلاء بني أمية على
السلطة واستئثارهم بها لمصالحهم الذاتية ومصالح حفنة من المنتفعين
على حساب الأغلبية الساحقة من المسلمين.
وبعد استيلاء بني العباس على السلطة
السياسية في الدولة الإسلامية واستئثارهم بها لمصالحهم أيضاً تماماً
كما فعل بنو أمية من قبلهم، تصدى لهم حراس الرسالة الإسلامية
بقيادة آل محمد(ص). لقد كان ذالك الصراع على شكلين؛ الشكل العسكري
الذي تمثل بثورة محمد ذي النفس الزكية في المدينة المنورة، وثورة
أخيه إبراهيم(ع) في العراق.
والشكل الثاني الذي اتبعه الإمام جعفر بن
محمد(ع)، استمراراً لنهج أبيه محمد بن علي الباقر(ع)، تمثل بنشر
الفكر الإسلامي الصحيح وإعادة العمل بأسلوب التبليغ والدعوة، والتي
عمل بها رسول الله(ص) في بداية الرسالة الإسلامية وقبل الانتقال
إلى مرحلة الجهاد والحرب، وكان الأسلوب والنهج الذي اعتمد على نشر
العلم والمعرفة، أي الفكر والآيديولوجيا كما تسمى اليوم - ميداناً
له، هو الأقوى والأمضى تأثيراً في نفوس المسلمين والأخطر على ملوك
الجور من الطغاة المستبدين.
ولقد استغل الإمام(ع) فسحة الحرية القليلة
التي عاشتها الأمة الإسلامية ما بين سقوط دولة وتأسيس أخرى، بكل
لحظة من لحظاتها، فازدهرت العلوم وتوجه العلماء والمحدثون صوب
مدرسة أهل البيت، التي كانت بإمامة الإمام أبي عبد الله الصادق(ع)،
ليغرفوا من معينها الذي لا ينضب ما شاء لهم، ليس من العلوم الدينية
فقط بل وفي الفلسفة والعلوم الدنيوية أيضاً.
ولذلك فلقد شاع وانتشر اسم تلك المدرسة التي
أرسى أسسها الإمام الباقر(ع) وأكمل تشييد دعائمها وبناء أركانها
الإمام الصادق(ع)، بحيث لم يبق أحد من العلماء والمحدثين إلا وكان
لتلك المدرسة الفضل الأول والرئيس في علمه وتكوينه المعرفي وبنائه
الفكري، حتى قيل بان أكثر من (500) عالم ومحدّث في الكوفة وحدها
سمعوا وفي آن واحد، كل منهم يقول: (حدثني جعفر بن محمد).
وما أن وصل هذا الأمر إلى أسماع السلطة
الحاكمة ممثلة آنذاك بشخص أبي جعفر المنصور(الدوانيقي)، حتى تملكه
الرعب والخوف من حدوث تلك الظاهرة الجديدة في العالم الإسلامي، تلك
التي أخذ ينقل أخبارها الناس في كل البلدان والأرجاء وصار يتردد
صداها في كل الأصقاع الإسلامية، بسبب معرفة(الدوانيقي) العميقة
بمقدرة أئمة أهل بيت النبوة العلمية والمعرفية لصلته الوثيقة بهم
وقرابته اللصيقة معهم، قبل أن يصبح الملك ويكون الخليفة، حيث يعرف
بانهم يزقون العلم زقاً مع حليب أمهاتهم الطاهر، وأيضاً لعلمه بحب
الناس لهم وتفضيلهم على غيرهم من المسلمين، ليس لدرجة القربى وصلة
الدم وعلاقة النسب والحسب التي تربطهم مع رسول الله(ص) فقط، ولكن
لامتيازهم عن كل أولاد الصحابة وكما ذكرت ذلك الدكتورة سميرة
الليثي في خاتمة كتابها(جهاد الشيعة في العصر العباسي الأول)،
بصفات طبعوا عليها ومنها العلم والأدب والحلم والكرم والإباء
والشمم، فلذلك كانت قلوب الناس وعقولهم وأرواحهم وأجسادهم تتطلع
إليهم وتسير وتتجه صوبهم طمعاً في الحصول على شيء من واحدة من عطاء
تلك الصفات، فطالب الحاجة(المعوّز) يطمع في كرمهم، وطالب العلم
يرغب في اغتراف ما شاء له وما استطاع عقله من اغتراف ونهل بعض من
علومهم.
ولذلك فلقد عمل الدوانيقي جاهداً من أجل
إيقاف تدفق نهر المعرفة الذي كان يجريه الإمام الصادق(ع) لكل ضامئ
وعطشان، مستخدماً شتى وسائل وطرق الترغيب والترهيب، كما أدى ذلك
إلى انتباه السلطة السياسية الحاكمة في بلاد الإسلام إلى ضرورة
وجود فكر إسلامي سياسي(آيديولوجيا) خاص بالسلطة يمثل مصالحها، مما
أدى بالنتيجة إلى نشوء وتأسيس المذاهب الإسلامية المختلفة.
ولقد فشل في إحراج الإمام في مناظرة علمية
مع النعمان بن ثابت (ابو حنيفة)، حيث كانت نتيجة المناظرة لصالح
الإمام باعتراف النعمان بأفضلية الإمام العلمية، بقوله حينما سأل
بعد خروجه من المناظرة عن أعلم الناس: فأجاب" إن أعلم الناس،
أعلمهم باختلاف الناس، وأعلم الناس باختلاف الناس هو جعفر بن محمد".
لم تقتصر مدرسة الإمام جعفر الصادق(ع) على
تدريس العلوم الدينية، كما ذكرنا ذلك سابقاً، بل إنها شملت كل
العلوم المعروفة في ذلك الوقت، من علوم اللغات الأعجمية (الأجنبية)
وحتى العلوم التطبيقية والنظرية كالفلك والرياضيات والكيمياء
وغيرها، وهذا ما أقر به واعترف بشأنه علماء الغرب أنفسهم.
وعلى أية حال فإن مدرسة الصادق كانت مصدراً
للعلم وينبوعاً يفيض على الأمة بالعلوم والمعارف الإسلامية، وقد
أغدقت على العالم الإسلامي بخدماتها الجليلة، في بث التعاليم
القيّمة في عصر ازدهر فيه العلم، وأقبل المسلمون على انتهاله.
ولقد قال عمرو بن عثمان(الجاحظ):(جعفر بن
محمد) الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه، ويقال:(إن أبا حنيفة من تلامذته،
وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب).
ويقول عبدة خليفة اليسوعي وعارف ثامر، كما
نقل عن مقدمة كتاب الهفة والأضلة ص15- 16: (عندما
يتفرغ الباحث لدراسة شخصية الإمام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين
بن علي بن ابي طالب، دراسة صحيحة على ضوء الضمير النقي، والواقع
العقلي، والتجرد العلمي، متبعاً الأصول الحديثة مبتعداً عن العاطفة،
ومرض التعصب، وأثر الجنسية، فلا يستطيع إلا الإقرار بأنها مجموعة
فلسفية قائمة بذاتها، تزخر بالحيوية النابضة، والروحية المتجسدة،
والعقلية المبدعة التي استنبطت العلوم، وأبدعت الأفكار، وابتكرت
السنن، وأوجدت النظم والأحكام).
إن إكمال إرساء دعائم مدرسة اهل البيت(ع)
التي عرف بها الإمام الصادق لم تشغله عن هموم الأمة ومعاناة
المسلمين من ظلم سلاطين الجور؛ فهو لم يكتف بفضح حقيقة أولئك
الحكام عن طريق نشر الوعي الديني والفكر الإسلامي الصحيحين، بل
وايضاً بالدعوة إلى العصيان ومقاطعة كل ما يمت إلى الحكام، والدعوة
إلى تحريم التعامل معهم، حتى ولو كان هذا التعامل يعود بالنفع
والفائدة على المسلمين. وقوله الشهير الى صفوان الجمال لازالت
أصداؤه ترن في آذان المؤمنين لحد هذه الأيام (اعلم يا صفوان، اعلم
يا صفوان، إن كراء نهر مع سلطان جائر حرام).
كما أن وقفته ودعمه المعنوي لكل الثورات
التي قادها رجال أهل بيت العلم والشهادة في سبيل إسقاط سلطة الثورة
المضادة للإسلام وإقامة دولة العدل الإلهي، ومنها ثورة عمه زيد بن
علي بن الحسين(ع) وثورة محمد ذو النفس الزكية.. تلك الوقفات ليست
خافية على أحد ولقد أكدها كل المؤرخين وكتاب التأريخ والسير.
لقد استمر نهج الامام الصادق(ع) العلمي
والسياسي، سواءٌ ما كان منه في بث الوعي الديني والفكر الإسلامي
والعلم الإلهي ونشر في أرجاء العالم الإسلامي أو في محاربة ومقاومة
سلاطين وملوك الظلم والانحراف والجور، نقول استمر ذلك النهج في
سيرة وحياة ونهج الإمام الشيرازي الراحل(رحمه الله) الذي أفنى عمره
الشريف في العمل على دوام واستمرار نهج مدرسة أهل بيت النبوة
وبالذات اقتفاء أثر الإمام الصادق(ع) فيما عمله في مجال نشر العلم
والمعرفة بين عموم المسلمين ولذلك فلقد كرس الإمام الشيرازي حياته
من أجل إتمام مشروع المليون كتاب وتشجيع البحث والدراسة وطلب العلم
والمعرفة من قبل طلاب الحوزات والعلوم الدينية بل وتشجيع المدارس
الأكاديمية، للقضاء على تخلف الأمة الإسلامية عن طريق التعلم
والتعليم ليس للعلوم الدينية فقط، بل ولكل العلوم على مختلف
اهتماماتها واختصاصاتها.
كما أمضى سنوات عمره وحتى آخر لحظة منه
بالجهاد ضد الظلم والظالمين، ومن أجل حرية وكرامة المسلمين، واليوم
يستمر ذلك النهج بقيادة المرجع الديني الكبير سماحة آية الله
العظمى السيد صادق الشيرازي،حتى تتحقق مبادئ الرسالة الإسلامية
السمحاء، وأهداف الدعوة المحمدية الغراء.
مركز الإمام الشيرازي
للبحوث والدراسات