قلما عرف تأريخ الشعوب الحديث والمعاصر، توحد
او تماثلاً وانطباقاً بين القيادتين الدينية(الروحية)
والسياسية(الدنيوية)، مثل ذاك الذي حصل ولا زال في العراق. وبينها
وبين قاعدتها الجماهيرية.
فلقد كان للمرجعية الدينية ومنذ نهاية القرن
الثامن عشر تقريباً، دوراً رئيسياً و أساسيا في تفعيل الاحداث
السياسية وتوجيه مساراتها وصولاً إلى قيادة الجماهير العراقية
المؤمنة سواء كانت تلك الممثلة وقتها باتحادات القبائل كأتحادت
الخزاعل والمنتفك وبني لآم او من سكان المدن التي كانت حديثة التشكل.
وتعزز وترسخ ذلك الدور وازداد قوة وبروزاً عند
قيام الحرب العالمية الأولى نهاية 1914، عندما لم تكتفي المرجعية
الدينية باصدار فتوى شرعية بوجوب الجهاد ضد الغزاة المستعمرين
الأنكليز، ولكنها حملت السلاح وقادت بنفسها المجاهدين العراقيين، على
الرغم من كبر سن معظم المراجع وعلماء الدين الأعلام، فوقفوا كتفاً
إلى كتف مع القوات العثمانية في جبهة القتال، في نفس الوقت الذي كانت
فيه اعداداً كبيرة منها تستبيح مدن العراق الشيعية، كما حصل عندما
استباح القائد العثماني( عاكف بيك مدينة الحلة في 1916). وفي سنة
1920وقفت تلك المرجعية التي كانت حينها تحت زعامة الإمام الميرزا
محمد تقي الشيرازي(رحمه الله)مرة آخرى واخذت زمام قيادة العراقيين في
ثورتهم الوطنية الكبرى، وشكلت أول وآخر حكومة إسلامية- وطنية لإدارة
المناطق العراقية المحررة.
ولقد كان من نتائج تلك الثورة قيام وتأسيس
الدولة العراقية الحديثة سنة 1921. وبقيت المرجعية الدينية هي الموجه
الروحي والقائد الميداني الحقيقي للعراقيين طيلة القرن الماضي، على
الرغم من كل ما فعله ويفعله الحكام الطغاة المستبدين وخاصة ما اقترفه
النظام الدكتاتوري الحالي المغتصب للسلطة في العراق منذ عام 1968، من
جرائم قتل واغتيال وتعذيب وتشريد وتهجير للعلماء ورجال الحوزة
العلمية، في محاولة بائسة وبائسة منهم لفك وشائج الارتباط بين
المرجعية وجماهير العراقيين المؤمنين، وهو ذات الحلم الذي راود
مخيلة(مس غيرترود بيل)مسئولة القسم الشرقي في الاستخبارات البريطانية
التي عملت في العراق بعد احتلاله من قبل بريطانيا، حيث ورد في
مذكراتها(إننا وجدنا ان الذين حاربونا في العراق ابان الحرب العالمية
الأولى كانوا هم السبب وراء فشلنا، وكان محركهم العلماء، وقد رأينا
ان القضاء على هذه المقاومة لايتم إلا عبر فصل الشعب عن العلماء،
بحيث لا يتبع الشعب العلماء).
واليوم والعراق على مفترق طرق، وهو يعيش حالة
مخاض عسير باتجاه تغيير النظام المستبد، تعود المرجعية الدينية
الشرعية بقيادة السيد صادق الحسيني الشيرازي وريث المدرسة الإسلامية
(الشيرازية)التي عرفت بالعلم والجهاد والثورة والشهادة، لتتبؤا
مكانها الطليعي والطبيعي في الساحة الإسلامية العراقية، مبينة لها
الطريق الصحيح والشرعي الواجب إتباعهُ، وموضحة رؤيتها السلمية
المستندة على الشرع الإسلامي الحنيف والنابعة منه، لما يجب ان يكون
عليه عراق المستقبل.
حيث اصدر سماحته وبناء على استفتاءات العشرات
من المؤمنين، ومن الحركات السياسية العراقية المعارضة ومن المستقلين
ايضاً، فتوى شرعية بذلك دعى فيها العراقيين المؤمنين كافة ومن مختلف
القوميات والطوائف والمذاهب لتعبئة كافة الطاقات وبذل الجهود والعمل
الجاد وعلى شتى الأصعدة لإنقاذ الشعب العراقي المظلوم، وأيضاً
باغتنام الفرص المتاحة حالياً.
وهو ما يؤكدان رأي المرجعية يعول ويعطي
الأولوية للشعب العراقي في عملية التغيير القادمة وقبل أي عامل او
جهة آخرى، ولاكن دون إغفال الاستفادة من الظروف والعوامل الإقليمية
والدولية المتاحة في الوقت الراهن ايضاً.
كما دعاهم سماحته إلى جمع الكلمة وتوحيد
الصفوف، وعدم التهاون او التفريط بأي حق من الحقوق الوطنية وطبقاً
للموازين الشرعية.
وبعد ان دعى الله القوي القدير ان يحقق الآمال
بازاحة المستبدين الطغاة، بين سماحته رؤيته المعبرة عن رؤية المرجعية
الدينية الشرعية في العراق لشكل وطبيعة النظام القادم في العراق، حيث
أكد وجوب بناء عراق مستقبل وموجود يقوم على اسس التعددية
والديمقراطية(الشوروية)، كما يجب ان يستند على مبادئ العدل والحرية
واحترام حقوق الإنسان، ايٍ كان دينه او لونه او مذهبه او قوميته.
أي ان الدولة القادمة يجب ان تكون دولة قانون،
ذات دستور دائم، يستند على الشرعية الإسلامية السمحاء ومنبثقاً منها.
وبهذا وذاك تثبت المرجعية الدينية مرة آخرى،
كونها القائد الأمين والمجرب الذي تلوذ به الجماهير وقت المحن،
والبوصلة الدقيقة التي تشير ابداً إلى الطريق الصحيح.
وفي ذلك ايضاً دليل آخر على ان تلك الجماهير
ما استغنت يوماً عن قيادة المرجعية لها. وكما ان تلك المرجعية لم
تبتعد يوماً عن جماهيرها، ولم تغيب لحظة عن ساحة الصراع، وانهما معاً
سيبقيان يكمل احدهما الآخر من اجل إقامة دولة العدل اللاهي.
ولنا في قول الإمام الراحل السيد محمد الحسيني
الشيرازي(رحمه الله) الذي جاء في الصفحة45من كتابه( الحرية الإسلامية)،
مسك الختام: ( ان التاريخ أكد بأن المراجع حيثما كانوا في الحلبة
تمكنوا من اثبات او اسقاط حكومات، كما اسقطوا حكومة الانكليز من
العراق، وثبّتوا حكومة وطنية)
مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات
مؤسسة الإمام الشيرازي العالمية
|