أنتج الفيروس التاجي نشاطا اجتماعيا، وثقافيا هائلا عبر الإنترنت، فلم يكن هناك بدا ضمن هذا الظرف العالمي من البحث عن بديل يتيح للناس متابعة أعمالهم، ومشاريعهم، إلا الاستعاضة عن فضاءات العمل والتعليم، والتبادل التجاري والثقافي، ودور السينما والمسارح وصالات العروض بمختلف وسائل الاتصال، والتواصل الرقمية...

لقد أصبحت الثقافة الرقمية في ظل العولمة والدور الذي لعبته التكنولوجيا سمة من سمات التطور والتنوع الثقافي باعتبارها التراث الثقافي الجديد للعصر المعاصر، وفي ظل جائحة كورونا أضحى الحجر المنزلي بدلا من الخروج الحل الأمثل، والوحيد المتاح لمنع انتشار الفيروس وتفادي الإصابة، وشبح الموت، حيث استطاع الفيروس شل الحركة الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية في جميع أنحاء العالم وغير الحياة بشكل عميق بالنسبة لملايين الناس.

في الوقت نفسه أنتج الفيروس التاجي نشاطا اجتماعيا، وثقافيا هائلا عبر الإنترنت، فلم يكن هناك بدا ضمن هذا الظرف العالمي من البحث عن بديل يتيح للناس متابعة أعمالهم، ومشاريعهم، إلا الاستعاضة عن فضاءات العمل والتعليم، والتبادل التجاري والثقافي، ودور السينما والحفلات والمسارح وصالات العروض بمختلف وسائل الاتصال، والتواصل الرقمية، كما أدى الحظر الواسع على السفر الدولي والتجمعات الكبيرة إلى توقف الجولات والمهرجانات الموسيقية، والفعاليات الرياضية، وقلب الروتين اليومي من الاستمتاع بمشاهدة دوريات كرة القدم، وعروض السينما والمسرح، والمهرجانات الغنائية إلى وجهة الأنشطة الثقافية إنها فعلا مفارقة أن تعيش الثقافة اليوم تراجيدية غير مسبوقة نجح فيها فيروس متناهي الصغر في إحداث كل هذا التغيير في المشهد العالمي.

وطالما أن الثقافة الرقمية تعتمد بالأساس على المعرفة بآليات العمل الإليكتروني تم اطلاق نظام رقمي عالمي جديد من قبل شركة Google للفنون والثقافة، وهو عبارة عن منصة تسمح للمثقفين وتجار الفن بعرض أنشطتهم ومعارضهم، وهو ما ثمنه تاجر أعمال فنية السويسري أورس مايل Urs Meile الذي يدير صالات عرض في لوسيرن وبكين قائلا " الفكرة جيدة إذا لم يعد هناك معارض تجارية، فما زلت أرغب في البقاء على اتصال مع عملائي، وتزويدهم بمعلومات جيدة" و يقدم أورس عبر موقعه على الويب غرفة عرض عبر الإنترنت خاصة به، والتي تتيح شعورا أكثر واقعية بالمساحة، ومعلومات إضافية حول الأعمال والفنانين، كما ترحب المؤسسات الثقافية المشهورة عالميا والمغلقة بسبب فيروس كورونا بالزوار الافتراضيين، وعقدت أيضا منصة Google للثقافة والفنون شراكة مع 1200 متحف رائد، وأرشيف حول العالم لعرض معارضهم عبر الإنترنت وتقديم جولات التجوّل الافتراضي "Once Upon A Try" من خلال تنسيقات مبتكرة تم إنشاؤها بالتعاون مع 1200 متحفا حول العالم من أجل إستكشاف آلاف الإختراعات البشرية في معرض واحد".

هذا التوجه الرقمي لم يكن أمرا مستحدثا اليوم بل مر بتطورات مذهلة كما ذكرنا آنفا بسبب القفزة النوعية لتطور التقنية والتكنولوجيا جعلت الدول خاصة منها المتقدمة رائدة في هذا المجال مما زاد في اتساع الهوة بينها وبين الدول النامية بشكل مرعب لم تستطع هذه الأخيرة مواكبته نظرا للمشاكل، والأزمات والسياسات الفاشلة الناتجة عن ربقة التخلف والفساد والأنظمة التسلطية، ناهيك عن توسع دائرة الفقر، وغياب التنمية في تلك البلدان بما فيها دولنا العربية.

وقبل أن نلقي نظرة على وضعية الثقافة الرقمية العربية بشكل خاص في ظل هذه الجائحة العالمية نحاول عرض بعض النماذج الثقافية الغربية التي تم اطلاقها عبر مواقع الإنترنت، حيث تقول الكاتبة أدينا بورشارتز Adina Burchartz "إذا لم يعد بإمكان الناس الخروج إلى الأحداث الثقافية، فسوف نجلب الثقافة إلى غرفة جلوسهم" وهو ما جسدته شركات الأوبرا والأوركسترا بما في ذلك Met Opera في نيويورك و Berlin Philharmonic بتنظيم حفلات مباشرة للجمهور في جميع أنحاء العالم، كما يقوم عازف البيانو الألماني إيغور ليفيت بتقديم حفلات مجانية من مسرح ميونيخ، وأحيانا من غرفة المعيشة الخاصة به تتم مشاركتها عبر Twitter وفي الوقت نفسه افتتحت أوركسترا برلين قاعة حفلات رقمية تتوفر على أكثر من 600 حفلة موسيقية تم عرضها السنوات العشر الماضية على الموقع الإلكتروني مجانا، أما شركات الأوبرا والأوركسترا في نيويورك وسيول قدمت حفلات حية في قاعات فارغة تصل إلى الجمهور عبر الإنترنت في جميع أنحاء العالم، في حين أعلنت Met Opera في نيويورك أنها ستبث العروض المجانية للأداء السابق من سلسلة Live in HD على موقعها على الإنترنت وبالتالي أصبحت قاعات الحفلات الرقمية في هذه الدول أوركسترا مجانية للجميع تحت شعار "سنأتي إليك".

ومع اطلاق العديد من المبادرات في العالم من خلال المنصات الثقافية أتاحت عديد المكتبات والجامعات والمجلات والمراكز البحثية مواقعها مجانا للقراء والباحثين، بالإضافة الى زيادة الطلب على الكتاب الرقمي، ومع ذلك أبان الغرب المتقدم بكل امكانياته التكنولوجية عن مجموعة من التناقضات -المتعلقة بالعولمة والاقتصاد الحر- في تعامله مع فيروس كورونا، فماذا عن وضع القطاع الثقافي العربي في ظل هذه الجائحة؟

من المؤسف القول أن دولنا العربية بدت خارج مدارات التكنولوجيا والرقمنة، فالفيروس لم يبرز تخلف العرب وحسب في كل المجالات بل أعادهم إلى حجمهم الطبيعي دوليا، ورغم ذلك علينا أن نكون متفائلين ومتعلقين بقشة الأمل وليس الغريق أننا على بعد خطوة للتغيير وشحذ الهمم من أجل أخذ العبر والدروس القاسية التي صفعنا بها فيروس كورونا، وهذا ما لمسناه في سعي بلداننا العربية، ولو بخطوات محتشمة وبطيئة تعزيز الرقمنة في كل القطاعات بما في ذلك القطاع الثقافي، ورغم أن المنصات الرقمية الثقافية العربية المتاحة حاليا لا تتمتع بالخبرة الكافية سواء في العرض، أو التسويق، أو على مستوى العاملين فيها، إلا أن هناك مبادرات عربية مشجعة نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر المبادرة التي أطلقتها جمعية الثقافة والفنون بجدة في ظل الحجر المنزلي تحت شعار "مبادرة الثقافة في قلب الحدث" وتهدف المبادرة إلى نشر ثقافة القراءة والفن، وبناء أكبر مكتبة محتوى صوتي عربي، ويأتي مهرجان القاهرة للفيلم المصري القصير "رؤى" في نسخته الثالثة كنموذج عربي ثقافي آخر للعمل الفني الرقمي الذي تحدى كورونا بطريقة إيجابية، وحول عروضه الجماهيرية لأول مهرجان افتراضي في مصر والعالم العربي، اذ تم تقييم 47 فيلما جرى ترشيحها للمسابقات في فئات "العمل الأول" و"الروائي" و"التسجيلي" و"التحريكي."

محل القول لا يمكن إنكار أن الرقمية قد أحدثت التغيير، وبلغ التحول الرقمي في ظل هذه الأزمة الصحية مستوى النضج بغض النظر عن المجالات التي تستخدم فيها، ورغم ذلك تعتبر الثقافة هي أهم حاجز أمام الفعالية الرقمية خاصة في الدول النامية بسبب نقص في فهم الاتجاهات الرقمية، اذ تتجاوز الثقافة الرقمية الأعمال اليومية، فهي تصف شيئا أوسع، وأكثر دقة من ذلك، كما أنها تنطوي على التقدير، والإستكشاف، والتمتع المشترك للأدوات الرقمية المختلفة، والبيئات والمصنوعات اليدوية التي تعمل على إرشاد وتسهيل عملنا، فالثقافة الرقمية المزدهرة هي رصيد هائل لأي بلد بل يمكنها أن تساعد في تسهيل كل شيء من اكتساب المهارات الرقمية الجديدة بين الفنانين و المثقفين إلى تحسين البيئة الرقمية التي يعرضون فيها مختلف أنشطتهم، ومواهبهم، وعليه فإن أي بلد بدون ثقافة رقمية حقيقية اليوم يشبه المخرج السينمائي الذي لا يشاهد الأفلام.

إذن يمكن الجزم أن الثقافة الرقمية في ظل أزمة الفيروس التاجي تمنح فرصا متميزة لتدريب الفنانين، والباحثين خاصة المبتكرين، والمهرة والمتطورين ليصبحوا قادة ثقافيين، ناهيك عن تزويدهم بمهارات التفكير النقدي اللازمة لفهم التأثير الأوسع للتكنولوجيات على الثقافة والحياة.

* باحثة متخصصة في الإدارة الدولية/باتنة الجزائر
[email protected]

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق