يعتمد في توزيع التخصيصات للموازنة الاستثمارية على معيار الميزة النسبية في توجيه الاستثمارات قطاعياً ومكانياً وفقاً لأولوياتها مما يؤدي الى تشتت في القرارات بين الحكومات المركزية والمحلية عند التنفيذ، إذ حدد المشرع العراقي آلية لتوزيع الاعتمادات على اساس حجم السكان الذي يعد المرجع الحاسم في هذا الأمر...

بعد فترة انتظار طال امدها رافقها ترقب شديد من قبل الافراد للموازنة العامة، من المتوقع ان تخرج لنا الموازنة العامة بعد سلسلة المناقشات المحتدمة من الشد والشذب كما عهدناها في السنوات السابقة وما درجت عليه من تفاصيل وهذا يعود الى الاعتماد على آليات تنفيذ موازنة البنود التقليدية التي تؤسس لتوزيع التخصيصات على أساس التنمية المتوازنة وليس على أساس الوزن النسبي للقطاعات الرئيسة المحركة للتنمية الاقتصادية.

وحسب التكهنات من المتوقع تكرار نفس السيناريوهات السابقة بأرقام جديدة إذ من المتوقع أن يبلغ اجمالي الموازنة العامة الاتحادية مبلغ (260) ترليون دينار، ويقدر اجمالي العجز مبلغ (12) ترليون دينار حسب السعر المتوقع لتصدير النفط عند (70) $ للبرميل الواحد وسعر الصرف المتوقع عند 1350 دينار لكل دولار.

إذ مازال الاقتصاد الريعي يسيطر على الدولة مما يجعلها تعتمد على الايرادات النفطية لتمويل الموازنة العامة، هذا ما يجعل الايرادات النفطية تشكل نسبة (90%) من الايرادات العامة وتشكل الايرادات غير النفطية والاخرى نسبة (10%)، فيما تشكل النفقات الجارية نسبة (76%) والنفقات الاستثمارية نسبة (34%) من النفقات العامة.

ومن المحتمل ان تتوزع النفقات العامة على نفس المنوال السابق إذ تستحوذ الرواتب والاجور على الجزء الاكبر من النفقات الجارية بزيادة في اعداد العاملين في القطاع العام نتيجة تثبيت العقود والاجراء اليوميين وزيادة في التعينات، مع فارق وحيد ان يتم ادراج سلم جديد لرواتب موظفي الدولة والقطاع العام واضافة تخصيصات لتنفيذ فقرات البرنامج الحكومي وورقة الاصلاح ( الورقة البيضاء )، فيما توجه النفقات الاستثمارية نحو المشاريع الجديدة والمشاريع قيد التنفيذ وتلك الإضافات الجديدة في الموازنة العامة تشكل اعباء إضافية يبرز اثرها في السنوات القادمة.

ان الخلل الحاصل في اعداد الموازنة العامة لا يعود الى ضعف الاعداد للسلطة التنفيذية بقدر ما يمت صلة بآليات الاعداد التي تعتمد على تبويبات تتغير وفق المطالبات والمتغيرات الجديدة، ذلك التضارب في التبويب لم يكَ العائق الوحيد وإنما سوء اعداد وحدات الصرف التي تزايد على التخصيصات وفق القوة التفاوضية وليس للحاجة الفعلية.

كما يعتمد في توزيع التخصيصات للموازنة الاستثمارية على معيار الميزة النسبية في توجيه الاستثمارات قطاعياً ومكانياً وفقاً لأولوياتها مما يؤدي الى تشتت في القرارات بين الحكومات المركزية والمحلية عند التنفيذ، إذ حدد المشرع العراقي آلية لتوزيع الاعتمادات على اساس حجم السكان الذي يعد المرجع الحاسم في هذا الأمر، وهي مسألة تخالف المعايير الدولية الشائعة اليوم التي تؤكد على الأهمية الحيوية لقياس درجات الحرمان الاقتصادي والاجتماعي للمجاميع السكانية كمؤشر سليم لتأمين العدالة بين السكان.

ان استنزاف الموارد رغم اتساع حجم الايرادات العامة التي تغذي الموازنة العامة، كما ان تكريس النفقات لغير اولويات التنمية الاقتصادية لا سيما معالجة الفئات ما تحت خط الفقر، وكذلك تنمية الاقاليم والمحافظات التي تحتاج الى سقف زمني للتنفيذ، مما جعلها موازنة بعيدة عن طموحات الشعب العراقي.

وفق ذلك لابد ان تتضمن الموازنة العامة الابعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مجتمعة كالآتي: -

الاول/ البعد الاقتصادي: توفير فرص للعاطلين وتحقيق الاستقرار النسبي في أسعار المستهلك عن طريق اعادة توجيه الادخار والاستثمار، كما يتم معالجة التضخم والانكماش وتحقيق التوازن في ميزان المدفوعات بما يكفل تحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي.

الثاني/ البعد الاجتماعي: اعادة توزيع الدخل بين الطبقات الاجتماعية المختلفة عن طريق فرض ضرائب تصاعدية مباشرة على ذوي الدخول المرتفعة وتوجيه حصيلتها لتمويل بعض أوجه الانفاق الذي تستفيد منه الطبقات الاجتماعية الفقيرة ذات الدخل المحدود لتحقيق العدالة الاجتماعية قدر الامكان، كذلك معالجة الآفات الضارة بالمجتمع من خلال زيادة الرسوم الكمركية على المشروبات الروحية والسكائر وغيرها.

الثالث/ البعد السياسي: السعي الى تحقيق الوزن السياسي للقوى المختلفة في ضوء المطالب التي يتم تلبيتها.

اشتقت تلك الابعاد من اهداف الموازنة لتعبر عن خطط وبرامج الحكومة التي ستقوم بإعدادها استجابة للتحديات الراهنة ولتمهيد الطريق أمام مستقبل افضل من خلال الوصول الى الحد الاقصى للإيرادات وإعادة تنظيم أولويات الانفاق العام، وهنا نتسأل عن مدى امكانية تضمين تلك الاهداف الثلاث في الموازنة العامة وهل ستحقق هذه الموازنة رغبات الجماهير وتطلعات الشارع العراقي ولعل أهم ما يبحث عنه الفرد في الوقت الحالي هو زيادة الانفاق على الخدمات والارتقاء بمستوى المعيشة؟

من المؤمل ان تأتي موازنة عام 2023 داعمة لاستمرار الاستدامة المالية ومتابعة مسيرة الاصلاحات الاقتصادية والهيكلية الهادفة الى تقوية الموقف المالي للبلد وتعزيز مرونة الاقتصاد ومواكبته للمتغيرات المالية المتسارعة.

وفق ما درج في أعلاه، لابد من الاعتماد على نهج مدروس في اعداد الموازنة العامة للسنوات القادمة من خلال الاحتكام على مبادئ الادارة المالية التي تستند على اسس الادارة الرشيدة عن طريق الاعتماد على قانون الادارة المالية رقم (95) لسنة 2004 والابتعاد عن التخطيط لإعداد الموازنة العامة الاتحادية لثلاث سنوات الذي يخرجها عن مبدأ سنوية الموازنة الذي اشار اليه قانون الادارة المالية والدين العام المذكور آنفاً الذي نص على "ان تقر الموازنة للسنة المالية ويسري مفعولها خلال السنة التي اقرت لها"، كما حدد القانون فترة الحسابات الحكومية التي تبدأ في الاول من كانون الثاني وتنتهي في الحادي والثلاثون من كانون الاول وان التجاوز على ذلك يعد مخالفة للنصوص القانونية المذكورة اعلاه.

كما يتطلب التركيز على الإدارة الاستباقية التي تقوم على تحسس المخاطر والأزمات التي من المحتمل ان تواجه البلد والتنبؤ بها من اجل وضع الحلول الآنية في ستراتيجية الموازنة العامة لتدرج في مرحلة الاعداد وتكلل تلك المرحلة بنجاح من اجل ان تصب في تحقيق غايات الافراد وخدمة جميع الافراد بشكل عادل.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2023
www.fcdrs.com

اضف تعليق