q

في تونس، يدور سجال واسع حول الكيفية التي يتعين على السلطات التعامل فيها مع "العائدين من سوريا والعراق"... نقابة رجال الأمن، تقترح إسقاط الجنسية عنهم وتحذر من خطر "الصوملة" في حال عودتهم... والمجتمع منقسم على نفسه حول هذا الموضوع، سيما وأن تونس تشارك بنصيب وافر من ظاهرة "الجهاديين عابري الحدود"، وتتصدر قائمة الدول المُصدرة لهم.

مثل هذا الجدل، يدور في كل أو معظم البلدان التي كانت لها حصة "وازنة" في تشكيل ظاهرة "الجهاديين الأجانب" التي لا يعرف أحد حجمها على وجه الدقة، فالأعداد متفاوتة، وكل دولة تتقدم بقائمة وتقديرات تغاير ما تقدمه دول أخرى... تتعدد الاقتراحات بشأن كيفية التعامل مع تحدي "العائدين"، وإن كانت سلطات هذه البلدان جميعها، يراودها حلم واحد: التخلص منهم في سوريا والعراق، قبل أن تتاح لهم فرصة العودة لأوطانهم الأصلية.

الأردن، من الدول التي ساهمت في تشكيل هذه الظاهرة، ويحتل مكانة متقدمة في قائمة الدول "المصدرة" لهم، والتقديرات حول أعدادهم تتباين، وتراوح ما بين الألفين والثلاثة آلاف "جهادي"... لكن الجدل بشأن مرحلة ما بعد عودتهم، لم ينطلق بعد، إلا على استحياء، ولا يبدو أن أي من مؤسسات الدولة ومسؤوليها، بصدد إثارة الموضوع، وثمة رغبة في "دفش" هذا الملف إلى الخلف أطول فترة ممكنة... وحدها الأجهزة الأمنية، بحكم اختصاصها وتفويضها، ربما تكون بحثت المسألة ووضعت الخطط والتصورات، من دون أن نعرف ما الذي يدور في أروقتها بالطبع.

والحقيقة أنه لا يوجد خيار "سهل" يمكن اقتراحه لتناول هذه الظاهرة ومواجهتها لحظة تفاقهما، وهي لحظة تقترب مع كل شبر يتم استرداده من الأراضي السورية والعراقية المسيطر عليها من قبل التنظيمات الإرهابية... وفي ظني أن عام 2017، سيكون عام "العائدين" من سوريا والعراق، وسيكون عاماً صعباً للأجهزة الأمنية ولأمن البلاد واستقرارها.

و"المؤسف" بالمعنى "الانتهازي" للكلمة، ومن على قاعدة "مصائب قوم لقوم فوائد"، أنه لا توجد ساحة أخرى يتوجه إليها هؤلاء... فلا توجد "ملاذات آمنة" جدية، يمكنها استقبال كل هذه الأعداد منهم، وطرق الوصول إلى بعض "الجيوب" المسيطر عليها من "داعش" و"القاعدة" ليست سالكة وآمنة على الإطلاق... وفي مناخات "احتدام الحرب على الإرهاب" سيكون صعباً على أية دولة أن تتورط في عملية نقل هؤلاء من مكان إلى آخر، كما حصل في الشيشان، وقبلها في أفغانستان، وفي سراييفو وغيرها... المسألة هنا أكثر صعوبة وأشد تعقيداً.

إن قلنا إسقاط "مواطنة" هؤلاء، عملاً بنصيحة "نقابة رجال الأمن التونسيين" نكون قد اقترحنا مشكلة مع شريحة واسعة من "الأهالي"، الذين وإن كانوا ينكرون على أبنائهم أفعالهم الإجرامية، ولا يجيزون انخراطهم في صفوف منظمات إرهابية، إلا أنهم يبقون "أهالي" في نهاية المطاف، وسيتطلعون دائماً لحلول تعيد لهم أبناءهم، حتى وإن إلى السجون ومراكز الاحتجاز... المسألة هنا تتخطى "حقوق هؤلاء في المواطنة" إلى حقوق أهاليهم الإنسانية والمدنية كذلك.

وإن قلنا إرسالهم فوراً إلى السجون والمعتقلات، فنحن نعرف أن أبواب مراكز الاحتجاز لا يمكن أن تبقى مغلقة إلى الأبد على من فيها، والأرجح أن وضعهم في "معازل" خاصة بهم، حتى لا يتمكنوا من نقل تأثيراتهم الضارة إلى غيرهم من السجناء، سيبقيهم "عصبة واحدة"، تتبادل التأثير وتجدد الالتزام بهذا الطريق غير القويم الذي سلكه هؤلاء، ولنا في هذا المجال تجارب متعددة، عن السجون التي أخرجت من بداخلها، ليعودوا للالتحاق بساحات "الجهاد" وأرضه، عند أول فرصة، و"غزوة الكرك" الأخيرة، تعد أحدث شاهد على ما نقول.,

وإن قلنا "المناصحة"، و"استحصال ضمانات من الأهل والعشيرة"، نكون مرة أخرى بصدد "تجريب المجرب"... فلا المناصحة في التجربة الأردنية وفي تجارب البلدان الأخرى، أعطت أوكلها، وثمة تقديرات حول نسب متواضعة من المستفيدين من برامجها، وعن حالات "عودة عن التوبة" أدمت مجتمعاتها عند أول فرصة لتنفيذ عمل إرهابي... ولا العائلات والعشائر، بمقدورها تقديم مثل هذه الضمانات، فالذين خرجوا لـ "الجهاد" في سوريا والعراق، لم يستحصلوا على أذونات سفر من ذويهم، وهم خرجوا بالضد من إرادة الأهل والعشيرة، بل ورفضوا الاستجابة لمحاولات أقرب الناس إليهم بالعودة إلى الديار قبل أن "تقع الفأس بالرأس"، والأرجح أنهم إن قرروا معاودة نشاطهم "الجهادي"، لن ينتظروا إذناً من "ولي أمر" أو "رب عائلة" أو "وجيه عشائري".

هي معضلة بلا شك، قد تنفع وقد لا تنفع الخطط في التعامل معها... والأرجح أن التعامل الواقعي مع هذا التحدي، سيسلك مساراً فيه خليط من كل ما ذكر: سيجري توقفيهم واعتقالهم فور عودتهم، وسيخضعون لعملية فرز وتصنيف شديدة التعقيد، فليس كل الخارجين من فصيلة واحدة، ولا هم متورطين بالقدر ذاته من الأعمال الإجرامية... وسيقضون مدداً متفاوتة في السجون، وسيخضعون لبرنامج "مناصحة"، هناك أقوال متضاربة وتقديرات متفاوتة حول جديته ونجاعته، ومن بعدها ستدخل "الواسطات" و"المساعي الحميدة"، و"سيدق كثيرون على صدورهم" أو يسمكون بشواربهم" في مسعى لتقديم التعهدات والضمانات، وسيعود بعض "العائدين" للاندماج تدريجياً في مجتمعاتهم وبيئاتهم العائلية، فيما سيعاود آخرون طقوس العزلة والاعتزال...

سنأمن جانب عددٍ منهم، لا نعرف ما نسبته إلى مجموعهم، وسيعاود بعضهم الآخر انشطته الإجرامية، وسندفع ثمناً لذلك، لا ندري كيف سيكون، وسينتظر آخرون "فتح ساحات جديدة للجهاد"، يتسللون إليها... أليس هذا ما حصل في مرات سابقة؟... ولماذا نفترض أنه لن يحدث في المرة القادمة، مع أنها ستكون أصعب وأخطر، بالنظر للأعداد الكبيرة من الملتحقين بـ"الجهاد السوري والعراقي"، ولوجود بيئة متعاطفة مع تطرف هؤلاء، وأحياناً عنفهم المجنون، أكثر من أي مرة سابقة.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق