متى كان العالم اقل كراهية مما هو الان؟
لا يكشف تاريخ الانسان على وجه البسيطة الا حجما كارثيا لهذه الكراهية المستبدة في حياته.
فتاريخه ابتدأ بأول جريمة قتل على الارض، قابيل يقتل اخاه.
بعد ذلك شهد العالم الكثير من الحروب والمجازر، كتصعيد اعلى للكراهية من خلال العنف، سوآءا كان فرديا بين الانسان وأخيه الانسان المجاور له، أوعلى صعيد المجتمعات المتحاربة لأسباب سياسية او دينية او اقتصادية او غير ذلك.
وكلما صعد الانسان في سلم الحضارة صعدت معه شحنات الكراهية المتوترة، ضد نفسه وضد الاخرين. وتجسدت في حالات الانتحار وحالات العدوان والعنف والتطرف التي تكتسح العالم من جميع جهاته، ولعل التجلي الابرز لهذه الكراهية والعنف المتولد عنها ما شهدناه من افعال داعش والجماعات الارهابية الاخرى، التي وصلت بكراهيتها للأخر حد حرقه او قطع رأسه وحمله تباهيا امام عدسات الكاميرا، او اكل اجزاء من جسده..
كانت غاية الاديان الابراهيمية التوحيدية الكبرى، ولازالت، هي نشر المحبة والسعادة والخير والعدل بين الناس، مختلف الناس، دون النظر لشيء غير انسانية الانسان وكرامته، واحقيته بخلافة الخالق سبحانه وتعالى على الارض، والذي احد اسمائه الحسنى هي "الرحمن الرحيم"، والتي يبدأ بها كل عمل يقوم به الانسان المسلم، او وهو يطالع القرآن، او وهو يقوم باداء صلواته، او حتى مناجياته وادعيته. لقد جاءت الديانات لتصلح خراب الروح الانسانية.
لكن هذه الاديان، وبسبب سلوك قسم من المتدينين بها، قادت الى هذه التجسيدات النابعة بالشقاق والقتل والموت والخراب والدمار، واصبح هؤلاء المتدينون نتيجة لما يقومون به من اعمال عنف، وما يستبطنوه من كم كبير من الكراهية، عنوانا لهذه الاديان، وخلاصة الاسلام، وهو بريء كل البراءة منها، فهو يستدعون نصوصا من الهامش على النص الاصلي، يشابه نفوسهم وافكارهم، ولا يشابه الاسلام..
و(بالنظر إلى أن اتجاهات العنف والكراهية والتسامح والخضوع والاكتئاب والتمرد والاحتجاج والعزلة والمشاركة والانقياد والمغامرة والنزعة إلى الانتحار والقتل والإدمان والسادية (الاستمتاع بالإيذاء) والماسوشية (الاستمتاع بتلقي الإيذاء) أو أمراض واضطرابات نفسية وعقلية وسلوكية، مثل الانفصام والنرجسية والعدوانية والقلق والتوهم، يمكن أن تتفاعل مع السلوك الديني أو تأخذ تمظهرات دينية، أو أن يكون الدافع إلى السلوك الديني أو السياسي نفسيا أو بيولوجيا؛ جاء فهم تايلور منسجما مع اتجاهات شخصية ونفسية، فالمعتقدات والأيديولوجيات ليست عمليات عقلية أو ناشئة عن مجهود علمي وفكري، وإن كانت تستند إلى تراث فكري وفلسفي أحيانا، ولكن معتقداتنا في الحقيقة تعكس شخصياتنا، أو هي جزء من هويتنا وميولنا،.. نحن ننحاز إلى المعتقدات والتأويلات التي تشبهنا). إبراهيم غرايبة/ صعود الكراهية.. وصعود الثقافة والمجتمعات.
تقول كاثلين تايلور أستاذة طب الأعصاب وعلوم الدواء، في كتابها "القسوة.. شرور الانسان والعقل البشري" إن القسوة وهذا يشمل بطبيعة الحال العنف والتطرف والكراهية في حالتها الانتقائية، تعكس الفشل، ولكنها في حالتها الشاملة مرض عقلي، ولكن حين يمتلك هذا المرض العقلي تأييدا اجتماعيا كاسحا كما يحدث كثيرا في القوميات والأيديولوجيات، فإن الوباء يتحول إلى أصل أو سلوك سائد يصعب الخروج عليه).
إن بناء المعتقدات ليس قائما على عمليات علمية عقلانية؛ فالعلم والعقل لا ينشئان أيديولوجيا، ولكنها أفكار تكتسب صلابة وإيمانا عميقا بسبب اتجاهاتنا وميولنا التي نملكها بالفعل، إنها (المعتقدات) مثلنا ونحن عموما نفضل ما يماثلنا، خصوصا أن المعتقدات تصبح مكونات من هويتنا، وفي ذلك، فإنها تميزنا وتنشئ موقفا من الآخر الذي لا يعتقد مثلنا، فيصبح ليس منا، أو مختلفا عنا، أو عدوا أو مثيرا للاشمئزاز، ثم نطور موقفنا منه (الآخر) أو اعتقادنا عنه بأنه يريد إيذاءنا، ومن ثم يجب إزاحته أو إقصاؤه أو اخفاؤه من الوجود، .. فتبدو عمليات الإقصاء والإبادة كأنها دفاع ضروري عن الذات، أو هي تعكس الخوف الوهمي على وجود الذات ومصيرها. إبراهيم غرايبة/ صعود الكراهية .. وصعود الثقافة والمجتمعات
ودذعنا القرن العشرين على حربين عالميتين مع حروب اخرى متفرقة ذهب ضحيتها الملايين من الناس، وجاء القرن الواحد والعشرون ليصدمنا بثلاثة قضايا اساسية هي :العنف واللامبالاة (عدم الاكتراث) والكراهية .
يشير العنف الى ايذاء او تدمير الجسد او العلاقة يقوم به شخص تجاه اخر او جماعة تجاه اخرى، كما تصفه بابرا ريتمر في كتابها الانماط الثقافية للعنف..
وهو ايضا ( شكل من اشكال الكراهية الجموح)، فهو (ينطوي في جذوره المؤسسة على الكراهية). فهمي جدعان / في الكراهية والموت العادي.
اللامبالاة شكل من اشكال الكراهية المستقيلة، وهي تسميها ريتمر "عدم الحساسية" التي تؤدي الى تآكل الصداقة، ويمكن ان يكون لانعدامها نتائج مدمرة على وحدة العلاقات الاجتماعية وسلامتها اذا حصلت على المستوى الثقافي)..
من قصيدة فرنسية تصف اللامبالاة:
(اللامبالاة هي ما يدمر العالم، حتى الطفولة قضت عليها وافسدتها، انها تقتلك رويدا رويدا، شيئا فشيئا، رجل يسير على الطريق، يقع ويموت، لا احد يراه، لا احد يكترث به، هي قليل من الكراهية قليل من الحب.. انت الحمل انت الذئب، لا كراهية فيها، لاحب فيها، لكنها شيء ما، لا بل ليس فيها شيء البتة. قبل ان نموت جميعا بسبب اللامبالاة اريد ان اراها مصلوبة).
لكن ماهي الكراهية؟
بحسب احد التفسيرات: عداء شديد ونفور قوي وبغض عميق في قبالة شخص ما او شيء ما ..
ويتفسير اخر: الكراهية ان نقتل بالقوة (ضمنيا افتراضيا)، ان ندمر عمدا وقصدا وان نلغي الحق في الحياة.. ان نبغض او ان نكره احد ا معناه ان الغيض يتملكنا لمجرد وجوده واننا نريد اختفاءه او محوه الجذري .. الكراهية تفرز نسغا مسموما، هي اغتيال، لكنه ليس اغتيالا فوريا مباشرا، انه اغتيال مستمر، دائم يجري بدون انقطاع، وهي اخراج له من لوح الوجود.
وفي تفسير اخر: الكراهية قوة مدمرة، عن عمد وعن قصد، وانها سلاح رئيس للإفناء، تتخذ اشكالا اجتماعية مختلفة "ترفض الجديد، تتجه الى الماضي، تطلب الاعادة والتكرار، تجرد المكروه من ذاتيته".
وفي تفسير اخر للكراهية: الذي يكره ينكر كل وجود لموضوع كراهيته، حتى انه يحيله الى قدر ضئيل من الوجود، واذا لم يجد ذلك كافيا يقتله. انه لا يريد ان يعرف عن وجود الاخر شيئا، الكراهية نفي راديكالي للشخص وقصد الى تحطيم الاخر بمهاجمته في وجوده وفي انسانيته.
وهي في التفسير النفس – اجتماعي: ترتد الى استيهام اجتماعي من حيث هي محرك قوي في دينامية النجاح الاجتماعي والمنافسة والسلطة سواء تعلق الامر بحقل المشاريع الاقتصادية ام بممارسات الحركات والمؤسسات الدينية ام بتخطيطات الاحزاب السياسية ام بالعلاقات البين ذاتية الانسانية .. انها تطلب الظفر والاقصاء والسيادة وتنطوي عند تبلورها وتشخصنها على اتهام الاخر وازاحته والغائه بالقول وبالفعل. انا اعلم من انت، انا اقول أنك لا تساوي شيئا، الخطاب الكاره يقتل، انه ليس مجرد قول ولا خطاب، انه فعل مدمر. تفرض الكراهية نفسها بصورة خفية مستترة لا يمكن ملاحظتها الا بدءا بملاحظة ما تقصد اليه من النفس في شكل مشاعر وصور تتبلور في اعماق النفس كالشعور بالبرد وبالتحجر والجمود مثلما هي الحال في الحلم، الكراهية بما هي عالم نفي للذات تلغي كل ما يعبر عن هذه الذات، تنفي ما يظهر عنها، تنفي العاطفة، وتحول دون تجلي مزاياها (الحركة والنشاط والحرارة والحرية) ، وهي لا تقبض على الحقيقة، انها تزنرها، تحاصرها وتحصرها، في باطن فكرة جامدة، حيث لا شيء قابل للتغير والتحول، حيث كل شيء ساكن على الدوام)..
والكراهية في حقل الاضداد من المفاهيم، حيث يقابلها الحب ويكون ضدا لها، هي اخفاق في الحب، وهي ضد من اضداده، ويمكن ان نقتل في حالة الكره، لكن الاغلب الاعم اننا نلوذ بمرارة الاخفاق والحزن والاكتئاب، عند فشلنا في الحب.
والحب لا يتحقق الا من، وعبر "الغير – الاخر"، "عندما نكتشف ونقبل بغيرية الغير، باختلافه الباطني وحريته التي لا تقهر، فهو مكرس للإخفاق اذا ما اتخذناه بتهور واذا لم نقبل متطلباته. الحب هو القبول بطرح النفس للمناقشة وبتوفير المكان للغيرية وللأخر، بل التأمل ايضا بإمكانية مساحة من التواجد وعرض النقص الخاص لتقديم مكان مميز لذاته وللأخر. ان نحب دون ان يكون الاخر الموضع الحصري لحبنا لا يتمكن من توليد الا الخيبة والمعاناة". ميشيلا مارزانو /معجم الجسد.
من خصائص واعراض الكراهية انها "تؤتي اكلها بفعل عادي تافه وبقسوة خارقة ولامبالاة لا اخلاقية شريرة". فهمي جدعان / في الكراهية والموت العادي..
وهو ما اشارت اليه حنا ارندت في وصفها لما قام به الضابط النازي ايخمان "تفاهة الشر"
(ان اعادة اثبات العالم، بوصفه مكانا عادلا ورحيما، هي الوظيفة التكييفية الرئيسية للشعور بالذنب والعدوان عند الناجي. وهي وسيلة لاستعادة القيم الانسانية المفقودة وصورة المرء الانسانية الخاصة.
في حالة الناجين اليهود من المحرقة، يؤدي الشعور بالذنب والعدوان معا الى استعادة الشعور بالعدالة والامان في العلاقة مع العالم، الذي يتناقض مباشرة مع نكران أي نوع من الشعور بالذنب ورفضه من قبل القاتل بالجملة. والعالم المستكين بصمت). باربرا ويتمر / الانماط الثقافية للعنف.
اضف تعليق