ربما تكون المرة الأولى التي يعلن فيها قائد ميداني بارز مثل هادي العامري، بقرب توجيه "ضربة قوية" ضد عناصر "داعش" في قضاء المقدادية، موجهاً نداءه الى الأهالي بترك منازلهم تحسباً لوقوع اصابات خلال المعارك، وقال عبر وسائل الاعلام: "ان المعركة القادمة هي تحرير مناطق شمالي قضاء المقدادية..." موضحاً: أن "أهالي القضاء معرضون باستمرار للقصف بالهاونات من قبل مسلحي داعش". علماً أن الاخبار الواردة من هناك، تشير الى بداية نزوح طوعي لخمسين أسرة من مركز القضاء خلال اليومين الماضيين، بسبب هطول قذائف الهاون عليهم.
طبعاً؛ هذا النداء له مدلول آخر، بضرورة الإسراع في إخلاء المناطق السكنية الواقعة في دائرة الحرب، وعدم التمسك بالأرض والمنازل، وهو ما يبدو ملاحظاً من سكان المقدادية، وربما عديد الاقضية والنواحي في خط النار الاول.
مصادر الأمم المتحدة تشير الى أن أكثر من مليوني نازح، بواقع حوالي 320 الف أسرة تعرضت للنزوح داخل العراق، خلال عام 2014، وعلى خلفية الاحداث التي شهدتها الموصل ومناطق أخرى واجتياح عناصر "داعش" لمدن ومناطق عديدة في محافظة الموصل وصلاح الدين والانبار. علماً أن الرقم لا يشمل النازحين الذين تمكنوا من مغادرة العراق الى الولايات المتحدة و اوربا وبلاد اخرى.
واذا كان الامن والاستقرار وفقدان سبل المعيشة الرئيسية، من أول نتائج النزوح والهجرة الجماعية للسكان، فان التعويض عن هذا الفقدان، يمثل مهمة شاقة وثقيلة للغاية على أي بلد يتعرض لهكذا نكبات انسانية، و ربما لا نكون الوحيدين في العالم في مشاهد النزوح الجماعي وتحول السكان من العيش الهادئ والطبيعي في البيوت، الى سكان الصحاري والبراري، تحت الخيام تحت أشعة الشمس الحارقة صيفاً، وفي أجواء البرد القارص شتاءً، الى جانب الظروف الصحية والمعيشية والنفسية السيئة، وتصدّع كرامة الانسان بشكل عام.
إن أي نزوح جديد، وتحول عدد من العوائل الآمنة، من بيوتها الى مخيمات النازحين، يعني للدولة والمسؤولين، عبءً جديداً على الميزانية، إذ يتعين عليها توفير كل المستلزمات الاساسية التي تركتها هذه العوائل في بيوتها، وأقلها الطعام والشراب والدواء والوقود، الى جانب الماء والكهرباء، لأن رب الأسرة في هذه الحالة يجد نفسه مقيداً ، لا يقوى على الحركة والانتاج وتوفير لقمة العيش لأسرته، بل يكون حاله، حال النساء والاطفال، وهي مسألة بحد ذاتها تثير الشجون والمشاكل النفسية.
هذا الواقع الانساني المرير، وهو ليس بالجديد على العراق الذي يتعرض منذ حوالي عشر سنوات الى عمليات ارهابية في مناطق عديدة، انطلاقاً من العاصمة بغداد، ثم الى المناطق ذات التنوع الطائفي، وبعدها في المناطق التي توصف بـ "الساخنة" وحواضن الجماعات الارهابية، بحاجة الى دراسة موضوعية مستوفية لكافة الابعاد الانسانية والاجتماعية والسياسية، بمعنى أن لا يكون النازحون الوحيدون الذين يدفعون فاتورة الحرب على الارهاب، إنما تسعفهم خطط وبرامج خاصة من شأنها أن تقلل من عمق الجراح وتخفف من وطأة التشريد لاسيما على الاطفال والنساء، وهم الحلقة الأضعف في هذا الواقع الانساني. وهذا لا يكون خلال العمليات العسكرية واندلاع نيران المعركة، كما هو حال قوات الحشد الشعبي التي يقودها هادي العامري، وتحديداً قوات "بدر"، وتعتزم شن هجمات عنيفة على الارهابيين لتحرير مناطق في المقدادية، إنما التحضير والاستعداد للقادم من الظروف الصعبة، فالشباب يكون مدعواً للتدريب على استخدام السلاح أو أي تدابير دفاعية اخرى، وبهذه الطريقة تكون المدن المستهدفة من قبل الجماعات الارهابية، ذات منعة وحصانة بنسبة معينة، مما يجعلها عصيّة على الاختراق والاحتلال، لا أن يكون الاهالي بانتظار ساعة الصفر واندلاع المعارك بين جانبي الصراع.
خلال الفترة الماضية، وايضاً السنوات التي تخللتها العمليات الارهابية – التكفيرية، جرى حديث مسهب وطويل عن التداعيات والاسقاطات الانسانية، من تشريد وتغرّب وفقدان للأمن والاستقرار وتدهور الوضع النفسي وموت للأطفال من البرد والأوبئة، الى جانب الضرر الكبير الذي لحق بالمرأة، هذا العنصر الحساس والمهم في المجتمع، في مقابل صمت وإحجام عما يمكن فعله للمناطق السكنية الواقعة ضمن مناطق الحرب.
والدليل على ذلك؛ التفكير مؤخراً بدعوة شباب تلعفر وسهل نينوى وطوزخورماتو وغيرها من المناطق التي احتلها "داعش" مؤخراً، الى الاندماج مع قوات الحشد الشعبي والإسهام في تحرير مناطق ومدنهم. ومن الواضح، لو كانت هذه الدعوة، وضمن خطّة معد لها سلفاً، قبل تعرض هذه المدن للاحتلال، لكان مسار الاحداث بغير الذي نشهده اليوم، او على الاقل، كان ليؤثر بشكل واضح على معادلة القوة بين هذه الجماعة الارهابية، وبين القوات الحكومية. وما لدينا اليوم؛ هو أن الحكومة والدولة بشكل عام، تعرضت لنكسة قاسية من جانب الجيش العراقي بعد الاحداث في الموصل وتكريت وغيرها، كما تعرضت لضغوط هائلة جراء حشود النازحين الذين يتوافدون على المدن الاخرى بشكل عفوي وسريع. وبالمحصلة؛ فان هذا الواقع من شأنه تغيير معادلة القوة في الساحة لغير صالحها وصالح البلد بشكل عام.
اضف تعليق