أعظم بليَّة أصيبت بها الامة الإسلامية، هي تفسير الإسلام تفسيراً سياسياً بعيداً عن القواعد والأصول الشرعية، وهو الخلل الوخيم والأمر الجسيم الذي عانت منه الأمة، وكان هذا الخلل ركيزة أساسية من ركائز نشوء منهج الخوارج في أوساط المجتمعات الإسلامية، ولاسيما بعد أن تفشت في هذه المجتمعات، ظاهرة تنامي التنظيمات السلفية...
إنَّ أعظم بليَّة أصيبت بها الامة الإسلامية، هي تفسير الإسلام تفسيراً سياسياً بعيداً عن القواعد والأصول الشرعية، وهو الخلل الوخيم والأمر الجسيم الذي عانت منه الأمة، وكان هذا الخلل ركيزة أساسية من ركائز نشوء منهج الخوارج في أوساط المجتمعات الإسلامية، ولاسيما بعد أن تفشت في هذه المجتمعات، ظاهرة تنامي التنظيمات الإسلامية السلفية المتطرفة، وتكفيرها للمجتمعات والدول.
وما زالت الأمم تدفع ثمن هذا المنهج من دماء أبنائها، وأعراض نسائها، وأموالها. فثمة مراحل مر بها التفسير المنحرف، وتنقل في تأثيره بمصادر معرفية وفكرية ومنظّرين. فعلى صعيد مصادر التراث الإسلامي تشكل مدرسة "أهل الحديث" وعقائدها وأدبياتها الفقهية منهلاً رئيساً لهذا التيار، الذي يستند على القراءة الانتقائية لفتاوى أبن تيمية ثم محمد بن عبد الوهاب.
اما في المرحلة الحديثة والمعاصرة فقد كان الأب الروحي لهذا التيار، فكريا وليس تنظيمياً سيد قطب بخاصة في كتابيه (معالم في الطريق وفي ظلال القرآن) ومن قبله ابو الاعلى المودودي، إذ رسّخت هذه الكتابات، بالتوازي مع كتاب المودودي (المصطلحات الأربعة في القرآن) مفهوم الحاكمية، الذي يمثل حجر الرحى في فكر هذا التيار وتصوراته السياسية. ثم ظهر كتاب (الفريضة الغائبة) لعبد السلام فرج في مصر، ليحدد طريق العمل المسلح منهجاً وحيداً للوصول إلى فريضة "الحاكمية (الخلافة الراشدة = الدولة الإسلامية) (1).
ويتلَّخص التفسير المنحرف: أن الأنبياء والرسل بُعثوا لإقامة نظام الإمامة الراشدة، وأنَّ شرك الأمم السابقة كان في إنكار حاكمية الله، وهو المنهج الذي سلكه الخوارج ضد الإمام علي (ع)، وبالاعتماد على هذا التفسير المنحرف، وصفت المجتمعات الإسلامية بأنها (مجتمعات جاهلية)، ووصل الانحراف بتكفيرها ودولها وحكامها وشعوبها، واعتبار ديارها دار (حرب وكفر) (2). ومن الأصول التي قرّروها وبُنيت على تكفيرهم ومنهجهم التكفيري: قتال الأنظمة المرتدةَّ أولى من قتال اليهود والنصارى، والعدو القريب أولى بالقتال من العدو البعيد. وبسبب هذا الأصل كُفَّر نواب البرلمانات والمجالس التشريعية ومن يشارك فيها، حتى من ينتخب قبل بأنهم كفَّار على التعيين.
يقول سيد فضل "وهو أحد منظري التنظيمات الإرهابية الحديثة: "أما الذين ينتخبونهم من أفراد الشعب فيكفَّرون أيضاً؛ لأنه بموجب الديمقراطية النيابية فإن الناخبين هم في الحقيقة إنما يوكلون النواب في ممارسة السيادة الشركيَّة -تشريع من دون الله-نيابة عنهم، فالناخبون يمنحون النواب حق ممارسة الشرك، وينصّبونهم بانتخابهم أرباباً مشرعين من دون الله"(3). وتأصيلهم لمسألة الدماء التي تُراق في العالم الإسلامي، في سبيل الفريضة المزعومة، وهي إقامة دولة الإسلام، فقالوا: إنَّ الدماء التي تُراق في العالم الإسلامي بسبب جهادهم تُقسم إلى أربعة أقسام: قسم مستحق للقتل بذاتهم، وهم الحكَّام وطوائفهم، والفئة المؤمنة، ويقصد بها من أنكر على الحكَّام وشاركهم في ثورتهم، وفئة من يقتل في هذه الاحداث من الكفار الأصليين، فهؤلاء مستحقون للقتل سواء كان ممن يقيم في ديار الإسلام أو ممن يدخل أهل الذمة بعقد أمان، وفئة مجهولو الحال، الذين لم تثبت لهم عصمة الإسلام؛ لأن الدار دار كفر وحرب.
ولعلَّ هذا التفسير المنحرف ترجع جذوره الحديثة إلى محاضرات لأبي الأعلى المودودي بعنوان (نظرية الإسلام) التي ترجمت إلى اللغة العربية عام 1946، وملخص هذه الرسالة أن الكفار والمشركين على مر العصور لم ينكروا وجود الله، وكانوا يقرُّون الله بالخلق والتدبير حتى فرعون والنمرود. ومما قاله في هذه الرسالة: "فهذه الألوهية التي ادَّعاها فرعون ونمرود، ليست بقاصرة عليها، بل نجد الملوك في كل أرض وفي كل زمان ينتحلون تلك الألوهية ويدَّعونها"(4). ثم صدرت له رسالة أخرى "بعد سنتين من الرسالة الاولى" تعرف باسم (المصطلحات الأربعة) كشف فيها الستار عن الوجه القبيح لديه في تفسيره المنحرف للإسلام، وقد اصبحت هذه الرسالة فيما بعد كدستور فقهي استندت عليها كل التنظيمات الإرهابية.
إذ يقول أبي مصعب السوري فيها: "واشتمل أحد أهم كتبه وهو (المصطلحات الأربعة) على كثير من أساسيات الفكر الجهادي المعاصر". ويقول المودودي فيه: "خلاصة القول أنَّ أصل الألوهية وجوهرها هو السلطة؛ سواء أكان يعتقدها الناس من حيث أنَّ حكمها على هذا العالم حكم مهيمن على قوانين الطبيعة، أو من حيث أن الإنسان في حياته الدينا مطيعٌ لأمرها، وتابع لإرشادها، وأنَّ أمرها في حذ ذاته واجب الطاعة والإذعان". هذا التفسير المنحرف، الذي ابتدعه المودودي، ابتلعه سيد قطب وشرب منه حتى الثمالة، إلا أن الاخير سبق من قبله وأتعب من بعده في ترسيخ المنهج الخارجي. فالتوافق في تفسير الإسلام تفسيراً سياسياً منحرفاً، بين المودودي وسيد قطب يصل إلى حد التطابق الحرفي.
إذ يقول صاحب التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين "علي العشماوي": "وصلتنا رسالة من سيد قطب -وهو في سجنه- في عشر صفحات مكتوبة بخط اليد في العقيدة، أوصانا بوجوب تصحيح الاعتقاد أولاً وبدراسة كتب معينة، منها للمودودي وخاصة المصطلحات الأربع". فضلاً عن تأثره بالمودودي كثيراً وأخذ عنه فكرة الحاكمية والجاهلية، إلا أن قطب خرج في النهاية بنتائج عن تكفير المجتمع والجاهلية (5). إذ يقول "انه ليست على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة، ولا مجتمع مسلم، قاعدة التعامل فيه شريعة الله والفقه الإسلامي". ومن أصوله المنحرفة أيضاً، الدعوة إلى اعتزال الناس والمجتمعات الإسلامية وهجران المساجد. ويبدو تأثير سيد قطب في الحركات السلفية الإرهابية المعاصرة، أكثر من ابي الاعلى المودودي ومن سبقه (محمد بن عبد الوهاب وابن تيمية واحمد بن حنبل)؛ لكونه تجاوز المرحلة من التنظير إلى التنفيذ العملي، ولذلك حفظ صناديد التكفير والتفجير هذا السبق لسيد قطب، فقال الظواهري: "فقد كان للأستاذ سيد قطب والمجموعة التي التفًّت حوله، فضل كبير بعد فضل الله في مجالين: حيث قررت المجموعة الملتفة حول قطب أن توجه ضرباتها ضد النظام القائم، باعتباره نظاماً معادياً للإسلام، رافضاً التحاكم إلى شرعه..."(6). ويكمل الظواهري في كتابة ويقول: "باستشهاد الاستاذ سيد قطب، اكتسبت كلماته بُعداً لم يكتسبه كثير من كلمات غيره، فقد أصبحت هذه الكلمات التي سُطًّرت بدماء صاحبها في نظر الشباب المسلم، معالم طريق مجيد طويل"(7).
ويقول أبو مصعب السوري: "ففي باكستان، وخلال الخمسينات، شكَّلت كتابات الأستاذ العبقري الفذ أبو الأعلى المودودي، مادة أساسية لتبلور فكر الجهاد، وطرح عبر كتبه ومقالاته، وكتب عن مقتضيات شهادة التوحيد وعن اسس الولاء والبراء وكتب حول ميلاد الدولة الإسلامية، والطريق لإقامتها، واشتمل أحد أهم كتبه وهو (المصطلحات الأربعة) على كثير من أساسيات الفكر الجهادي المعاصر". حتى ساد الاعتقاد لدى سيد قطب بإرهاب المجتمع والدولة على حد سواء، إذا ما تم الاعتداء او اعتقال أو متابعة تنظيم الإخوان أنذاك، إذ يقول: "فكرنا في خطية ووسيلة ترد الاعداء باقتراحات تتناول الأعمال التي تكفي لشل الجهاز الحكومي من متابعة الإخوان في حالة إذا وقع الاعتداء عليهم كما وقع في المرات السابقة لأي سبب أما بتدبير حادث كحادث المنشية الذي كنا نعلم أن الإخوان لم يدبروه أو مذبحة طرة التي كنا على يقين أنها دبرت للإخوان تدبيراً، أو لأية أسباب أخرى تجهلها الدولة أو تدس عليها وتجيء نتيجة مؤامرة أجنبية أو محلية... وهذه الاعمال هي الرد فور وقوع اعتقالات لأعضاء التنظيم بإزالة رؤوس في مقدمتها رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ومدير المشير ومدير المخابرات ومدير البوليس الحربي ثم نسف لبعض المنشآت التي تشل حركة مواصلات القاهرة لضمان عدم تتبع الإخوان فيها وفي خارجها كمحطة الكهرباء والكباري، وقد استبعدت فيها بعد نسف الكباري كما سيجيء"(8).
إن استعراض بعض ما جاء في كتابات سيد قطب حول الحاكمية، نجدها تدور في فلك واحد وتنحو منحاً واحدا يصب في محاولة إنضاج الشروط الذاتية والموضوعية لـ "الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور". هذا الربط الفقهي الذي أصل له سيد قطب انطلاقا من قاعدة تقسيم التوحيد التي أخذها عن (ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب) وطوعها لما يخدم طرحه السياسي/الديني، ستنتهي بقطب إلى اعتبار توحيد الألوهية، والتي أطلق عليها قطب “الحاكمية”، هي المعيار في الحكم على إسلام المرء أو كفره، كما تبقى القاعدة الوحيدة لتقسيم العالم إلى “بلاد إسلام” و”بلاد كفر وحرب”. هذا المعطى الفقهي سينتهي بسيد قطب إلى نتيجة واحدة تفيد بغياب المجتمع المسلم بل وغياب الإسلام كدين وعقيدة وتشريع، حيث يقول قطب: “… ووجود الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة …فالأمة المسلمة ليست “أرضًا” كان يعيش فيها الإسلام. وليست “قومًا” كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي…إنما “الأمة المسلمة” جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامي…وهذه الأمة -بهذه المواصفات! قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر- الأرض جميعًا”(9).
هذا الانحراف الفكري في التفكير السياسي ورؤيته للدولة والمجتمع، ترًّتّب عليه الكثير من المعطيات السياسية عند التنظيمات الجهادية المعاصرة، ورؤيتها للدولة الإسلامية الحديثة وتاريخها، ومن تلك المعطيات التي ترتبت على ذلك، بأن مهمة الأنبياء العظمى هي إقامة دولة الإسلام، وأن الخصومة بين الرسل وأممهم هي (لمن تكون الحاكمية) وليس الشرك أو التشكيك في ربوبية الله، وهذا التفسير المنحرف تم اسقاطه على بعض الدول العربية الإسلامية الحديثة، بكون حكامها يشاركون الله في حاكميته، مما أدى إلى تكفير حكَّام المسلمين عن بكرة أبيهم، والدعوة إلى الهجرة والعزلة، فضلاً عن، فصل الأمة عن علمائها، وشحن الشباب بالمخزون العاطفي اتجاه كفر الدولة والمجتمع.
فالتصور السلفي للسياسة يقوم على مقاربة ثنائية، تتجسد باعتبار ما ينشأ عن التصور الإسلامي المرجعي (الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح) هو خير مطلق، وما يأتي من الغرب (انتخابات، ديمقراطية، مشاركة، تعددية...) شر مطلق. وقد أدت شبكة الإنترنت في الآونة الأخيرة دوراً فاعلاً في تجنيد الشاب واستقطابهم تحت هذه المسميات، وتوفير فضاء حيوي للتأثير الإعلامي والنفسي والجوار من خلال عالم افتراضي، يتجاوز آثاره ودوره مؤسسات إعلامية عالمية ضخمة. وبعد تكفير الحاكم ومن يناصره او يدن له بالولاء، كان لا بد من تكفير وتحريم أي وسيلة وضعية لتغيير هذا الحاكم، فظهرت الأدبيات السلفية التي تتحدث عن كفر الديمقراطية وما يُبنى عليها، وتحريم سلوك الحركات والجماعات التي تنتهج العمل الحزبي، مثل الاحزاب والتيارات والقوى السياسي، وتحريم جعل الانتخابات وسيلة للوصول للحكم.
فضلاً عن ذلك فقد اعتبروا ((أنّ المشاركة في المجالس النيابية نوع من الشرك؛ لأن حق التشريع لله وحده، وأنّ دخول هذه القنوات فيه إهدار لمفاهيم إسلامية عظيمة (الحاكمية والموالاة والجهاد) وفيه إضفاء صفة إسلامية على وضع غير شرعي، واختلفت فصائل الإسلامويين، وحدث التطور الاعتيادي، واعتقدت جماعة داعش في بيان سُمّيَ ‘‘بيان الهيئة الشرعية للدولة الإسلامية في العراق والشام حول الجبهة الإسلامية وقياداتها‘‘ أنّ من يؤمن بالديمقراطية خارج عن الملة، وعرفّت الديمقراطية تعريفاً على هواها، حيث قالت: "ذلك من الثوابت عند أهل السنة والجماعة، أنّ الدعوة إلى إقامة حكومة "مدنية تعدّدية ديمقراطية"، عملٌ مخرجٌ من ملّة الإسلام، وإنْ صام دعاتها وصلّوا وحجّوا وزعموا أنّهم مسلمون؛ لأنّها تدعو لصرف التحاكم الذي هو حقّ محضٌ لله تعالى، إلى الطاغوت))(10).
اخذت هذه التفسيرات المنحرفة "السلفية الجهادية" صورة عالمية بعد تأسيس تنظيم القاعدة في افغانستان، بقصد محاربة السوفييت والشيوعية، ثم تبلورت أكثر عام 1998 مع الإعلان عن تأسيس "الجبهة العالمية للجهاد ضد الصلبيين واليهود"، وتكللت هذه المرحلة بالتحالف بين القاعدة وحركة طالبان في افغانستان، وتبنى تنظيم القاعدة بصورة رسمية استراتيجية المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية، بدلاً من التركيز سابقاً على النظم المحلية. ثم جاء احتلال العراق عام 2003 محفزاً آخر لنشاط القاعدة وتطورها، إذ تحول العراق إلى "مركز إقليمي" يستقطب المجندين ويرسل المتطوعين. وخلال هذه المرحلة أخذ الفكر السياسي للتيار السلفي يسير نحو التشدد والحدية بشكل أكبر، وهذا التشدد ساهم بشكل كبير في ميلاد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في العراق.
أعقب تكفير الديمقراطية طرح الوسيلة، التي سيتم الوصول بها لهرم السلطة، وأظهرت هذه التيارات المختلفة تنظيراً غريب الشكل، حيث رأى بعضهم، أنّ الدولة مسلمة، لكن قتالها واجب، فاستهدفوا مراكز الشرطة، واغتالوا رجال السلطات القائمة في بعض الدول، ثم طرحوا السؤال "هل الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله يعذر بالجهل أم لا؟. واستندوا في ذلك إلى فتوى قتال أبي بكر الصديق لمانعي الزكاة، وكيف أنّ جزءاً منهم كانوا مسلمين لكنه قاتلهم، كما استندوا لفقه دفع الصائل(*)، لكن الغريب أنّ القتال لم يكن بهذا الفقه، لكنّه كان خليطاً من إستراتيجية وأيديولوجيا الجماعات التي لا تعذر بالجهل. وبالنظر للأدبيات التي كانت يستندون إليها، سنجد أنّ كتاب "الفريضة الغائبة" لمحمد عبد السلام فرج يمثل الأيديولوجية الحقيقية لهذا التنظير؛ حيث طُرح فيه مبدأ إغفال الجهاد، وحدّد فيه حكم الدار، وقال إنّ أيّ دولة لا تحكم بالشريعة دار كفر، استرشاداً بفتوي لابن تيمية في الفتاوي الكبرى(11).
مشروع الدولة الإسلامية بين النكاية والتمكين
اتفقت السلفية الجهادية في فريضة الجهاد والمضي بتأسيس الدولة الإسلامية المزعومة، إلا أنها اختلفت حول بعض القضايا الرئيسة، ولاسيما في مسألة مقاتلة العدو القريب (الحكومات والأنظمة العربية والإسلامية) أم العدو البعيد (الولايات المتحدة الأمريكية والغرب)، فهناك من اعطى الأولوية لقتال العدو القريب ضمن شروط، كالمقدسي وابو قتادة الفلسطيني، وهناك من اطلقها بدون قيود، وهناك من اعطى الاولوية للعدو البعيد ومتابعة العدو القريب، للصلة المترابطة بين الأثنين، وكما يقول ابو قتادة: "إذ لا يمكن أن تقوم الأنظمة العربية والإسلامية إلا بدعم من الأنظمة الأجنبية"(12). لكن بالمجمل، يمكن القول: بإن تنظيم القاعدة تبنى مقاتلة العدو البعيد بشكل عام ورسمي، على الرغم من الاختلافات الاجتهادية بين منظريه، أما تنظيم "داعش"، فقد تبنى بشكل مفرط مقاتلة العدو القريب.
وفي رسمه الخطوط العامة بعيدة المدى لاستراتيجية الجماعات الجهادية في الانقلاب على الحكومات العربية وتغيير الأوضاع القائمة؛ يميز أبو قتادة بين "شوكة النكاية و"شوكة التمكين"؛ إذ لا بد من الدخول بدايةً في صدام مع الأنظمة؛ وذلك من خلال شوكة النكاية وهي مرحلة تتسم بالعنف المتدرج الذي تستخدم فيه أساليب حرب العصابات. وهي ذات الاستراتيجية التي اتبعها تنظيم "داعش" في العراق، قبل إعلان دولته المزعومة بعد اجتياحه محافظة الموصل وبعض المحافظات العراقية منتصف العام 2014.
ثم تأتي مرحلة التمكين التي لا بد أن يحكم الناس بالإسلام بجميع الوسائل التي تستند إلى القوة (والوصول إلى التمكين من خلال شوكة النكاية المتكررة، لن يجعل همنا ارضاء الناس بتأمين السكن والخبز والعمل لهم، ولسنا محتاجين إلى أخذ رضاهم فيمن يحكم او بما يحكم؟ سيحكمهم أميرنا شاؤوا أم أبوا، وسنحكمهم بالإسلام... ولم نصل إلى التمكين بقرار في بيتِ أبيض أو أسود، بل بعبوديتنا لله وحده، وببراءتنا من كل طواغيت الأرض"(13).
ثم تأتي إدارة التوحش، التي تعد بمثابة عنوان ثابت لكل التنظيمات السلفية الإرهابية، وهي مرحلة تقع بين مرحلتين، بين ما تسمى بـ (شوكة النكاية) التي تقوم خلالها المجاميع والمجموعات الجهادية المحلية، هنا وهناك، بتوجيه ضربات عسكرية نوعية للأنظمة الموالية للغرب، وبين (شوكة التمكين) التي تتم من خلال إقامة الدولة الإسلامية الموعودة(14). وبين شوكتي النكاية والتمكين، هنالك مرحلة ضرورية وحاسمة، وهي مرحلة "التوحش"، وهي مرحلة استثمار بالنسبة للتنظيمات الإرهابية، اي بمعنى أن تلك التنظيمات السلفية ستستفيد من حالة ضعف السلطات المركزية التي تصيب الدول، نتيجةً للظروف والتطورات الدولية على مستوى النظام الدولي، مما يسهم في اضعاف بعض الأنظمة العربية والإسلامية، ويسًّهل على التنظيمات السلفية إيجاد محاضن آمنة أو مناطق يحكمونها ويطبقون فيها الشريعة الإسلامية ويحمونها، كما حصل مع الاتحاد السوفيتي بعد تفككه، أو كما حصل في الربيع العربي.
والمناطق التي تحكمها "المجموعات الإسلامية السلفية" أو الإرهابية، تتساعد مع مناطق أخرى، وتتبادل معها الخبرات، وتقوم فيها المجموعات المحلية الصغيرة بدور "شوكة النكاية" لإرهاق العدو وتشتيت جهوده، وجهود الحكومات الموالية له في أكثر من مكان، ورفع الكلفة السياسية والأمنية في القدرة على مواجهة المشروع الجهادي وإعلان الدولة الإسلامية المزعومة. وهذا الطرح، يتشابه كثيراً مع مفهوم حرب الاستنزاف، الذي يتم التركيز فيه على الأهداف الاقتصادية، التي تشكل عصباً حساساً في المجتمعات الغربية. في المحصلة، فإن الفكرة الرئيسة لـ "إدارة التوحش" تتمثل ببناء تصور استراتيجي لمراحل التغيير الجهادي والجمع بين المناطق التي تسقط بيد المجموعات الجهادية "الإرهابية" والمناطق التي تصارع الدول والحكومات الأخرى، والادوات والقواعد المطلوبة للتعامل مع كل مرحلة(15).
اضف تعليق