كانت واشنطن تتفرّد بالزعامة، إلا أن انخراطها في حروب صغيرة ولكنها ذات تكلفة عالية، عمّق من أزمتها البنيوية، بحيث أصبح مجرّد الشعور بوجود خطر وشيك الوقوع أو محتمل مبرراً كافياً لشن الحرب الوقائية أو الاستباقية ضد عدو غير محدّد أو حتى موهوم...
هل غيّرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 العالم؟ اعتقاد يكاد يقترب من الإجماع بعد تلك «الجريمة ضد الإنسانية» كما تم وصفها، وهي جريمة بحق تستوجب عملاً دولياً مشتركاً لملاحقة مرتكبيها وسوقهم إلى العدالة؛ فقد خلّفت تداعيات كبرى على الصعيد العالمي، ومن أبرزها إحياء الرئيس جورج دبليو بوش «حرب ريجان على الإرهاب» كما يذهب إلى ذلك المفكر الأمريكي نعّوم تشومسكي، في كتابه «من يحكم العالم؟» وهو ما نجم عنه غزو أفغانستان في العام 2001 ومن ثم احتلال العراق عام 2003، إضافة إلى التهديدات المتواصلة التي تم إطلاقها بالهجوم على «محور الشر».
بعد عقدين من الزمن على جريمة 11 سبتمبر/ أيلول، هل حققت الولايات المتحدة أهدافها من استراتيجية مكافحة الإرهاب الدولي؟ وهل أصبح العالم أكثر أمناً وأماناً بعد تشكيل «التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب»؟ وهل بات العالم العربي والإسلامي أقل تعصّباً وتطرّفاً وبالتالي أقل عنفاً وإرهاباً؟ ويمكن إعادة السؤال على نحو معاكس، هل استدرج أسامة بن لادن الولايات المتحدة لإلحاق هزيمة بها في بلاد المسلمين عبر حروب صغيرة إلاّ أنها مكلفة وستؤدي في نهاية المطاف إلى إفلاسها كما كان يعبّر عن ذلك؟
وحسب تقديرات معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة التابع لجامعة براون، فإن الفاتورة النهائية ستصل إلى حدود 3.2 - 4 تريليونات دولار، وربما زادت عن هذا الحدّ في السنوات الأخيرة بعد احتلال «داعش» للموصل، وتمدّدها في ثلث أراضي كل من العراق وسوريا.
باندفاع واشنطن باستراتيجيتها في العالمين العربي والإسلامي زادت وتيرة التعصّب والتطرّف، وهذان أنتجا عنفاً وإرهاباً دولياً، خصوصاً حين استهدف إضعاف ثقة الدولة بنفسها وثقة المجتمع والمواطن بالدولة، لاسيّما إذا كان عابراً للحدود؛ ولعلّ ذلك ما أراده ابن لادن وهو ما قصدته أو لم تقصده واشنطن بشأن «الفوضى الخلّاقة»، فقد أصبح الأمر واقعاً حتى وإن لم يخطر على بال أصحاب القرار في البيت الأبيض من الرؤساء المتعاقبين، بوش وأوباما وترامب وآخرهم بايدن.
فهل هناك من يتصوّر أنه بعد عقدين من الزمن ستتسلّم طالبان مقاليد الأمور في كابول، وستخرج القوات الأمريكية مهزومة في جنح الظلام، بعد أن بشّرت بحلول ربيع الديمقراطية في أفغانستان والعراق، بل وعموم دول المنطقة.
والشيء بالشيء يذكر كما يُقال، فالانقلاب الذي نظّمته وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA في سانتياغو (تشيلي) في 11 سبتمبر/ أيلول 1973 للإطاحة بحكومة سلفادور أليندي اليسارية المنتخبة وقاده الجنرال أوغوستو بينوشيه أوقع البلاد في لُجة القمع والإرهاب والتعذيب، بدلاً من التطور الديمقراطي المنشود، وقد وصف الرئيس نيكسون هدف عملية تشيلي بالقضاء على «الفيروس» الذي قد يعمّ أمريكا اللاتينية، الأمر الذي قد يعرّض صدقيّة واشنطن للتصدّع وفقاً لكيسنجر.
وكان من تداعيات 11 سبتمبر الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت العالم، وخصوصاً الولايات المتحدة في العام 2008 ومن نتائجهاٍ الانسحاب من العراق (نهاية العام 2011)، ومؤخراً الانسحاب من أفغانستان (صيف العام 2021)، فهل سيؤدّي ذلك إلى أفول العصر الأمريكي الذي روّج له المفكّر فرانسيس فوكوياما ونظريته حول «نهاية التاريخ» وظفر الليبرالية على المستوى الكوني حسب صموئيل هنتنجتون صاحب نظرية «صدام الحضارات»، بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وتفكّك الاتحاد السوفييتي السابق كدولة عظمى ذات ترسانة نووية منافسة للولايات المتحدة حينها.
لقد باتت «اللحظة الأمريكية» أمام امتحان جديد بعد الانتصارات التي حققتها منذ الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً بعد انتهاء عهد الحرب الباردة في نهاية الثمانينات وإقامة نظام دولي جديد بقيادتها وهيمنتها الكونية، وذلك بصعود قوى جديدة في مواجهتها تقف الصين في آسيا منافساً قوياً لها، بحيث تشير التقديرات إلى أن الاقتصاد الصيني سيكون الأول في العالم عام 2030، في ظل نظام عالمي يميل إلى التنوّع والتعدّدية، بعد أن أصبح أحادياً وبسيادة أمريكية.
فهل انتهى العصر الذهبي الذي عاشته واشنطن بعد انتهاء الصراع الإيديولوجي مع النظام الاشتراكي العالمي، أم أن قوّتها مستمرة دون أن يعني إمكانيتها على فرض إرادتها بالكامل؟
والأمر له علاقة بالداخل الأمريكي أيضاً، ونظام الصحة والتعليم والخدمات والحريات مثلما له علاقة عالمياً، حيث كانت واشنطن تتفرّد بالزعامة، إلا أن انخراطها في حروب صغيرة ولكنها ذات تكلفة عالية، عمّق من أزمتها البنيوية، بحيث أصبح مجرّد الشعور بوجود «خطر وشيك الوقوع» أو «محتمل» مبرراً كافياً لشن «الحرب الوقائية» أو «الاستباقية» ضد عدو غير محدّد0 أو حتى موهوم.
اضف تعليق