قبل ان تتحول سوريا (بلاد الشام) بعد احداث 2011، الى "قبلة الجهاد" الجديدة، بالنسبة لتنظيم "داعش"، كما أطلقت عليها الجماعات المتطرفة المنتشرة هناك، كان العراق بنظر اغلب المسلحين يمثل "عنوان الجهاد" ضد المحتل الأمريكي، والرافضة، والمجوس...الخ، بعد عام 2003، وبالأخص مسلحي تنظيم "القاعدة" والمتعاطفين معه من داخل العراق... اضافة الى عشرات الدول التي كانت تغض الطرف عن هجرة ابنائها الى "مواطن الجهاد" المقدس بنظر الكثيرين... بل وقد تقدم لهم مقابل ذلك، التسهيلات والأموال والدعم "غير المباشر"... ليجاهد... ويفجر... ويقتل... كما يحلو له، المهم ان لا يكون هذا العمل على أراض بلاده، وما عدا ذلك فلا شيء مهم على الاطلاق... ومع هذا المنطق، في ابعاد الخطر عن نفسي والحاقه بالآخرين، فقد وصل مد تنظيم "القاعدة" وافكارها التكفيرية ومفخخاته... الى دول الخليج وغيرها، واحدثت عددا من العمليات الانتحارية والتفجيرات في السعودية والكويت وقطر واليمن... ولم تنتهي "فوضى القاعدة" الا بحملات امنية مكثفة وجهد استخباري محلي-دولي، ومطاردات، وعمل امني استمر لسنوات، حتى تمكنت دول مثل السعودية من ضبط امنها الداخلي ومنع المزيد من الهجمات التي تهدد مصالحها الخاصة ومصالح حلفائها.
وكان العراق... الأكثر تضررا من بين دول الشرق الأوسط بالإرهاب والجماعات المتطرفة... فعندما كانت "القاعدة" تقود الإرهاب العالمي... كان العراق الساحة الأهم لتنفيذ اجنداتها التكفيرية في المنطقة والعالم... وعندما تحولت دفة الإرهاب الى "داعش"... استطاع التنظيم التحرك في ذات المجال الحيوي، بين الحدود العراقية والسورية... سيما وانه سيطر على مساحات واسعة في شمال وغرب وشرق العراق بداية عام 2014، وكان موقف اغلب الحكومات العراقية المتعاقبة على الحكم... اضعف من الصمود بمفردها امام الهجمات الإرهابية، التي دمرت بناها التحتية واستنزفت اقتصادها القومي وسلبت امنها المرتبك... لهذا طالبت المجتمع الدولي... وقبله العالم العربي ودول الجوار الجغرافي بالوقوف الى جانبها، لسبب بسيط... حتى لا ينتقل الارهاب في مرحلته الثانية اليكم...
الاستجابة... ان لم تكن معدومة، فقد كانت ضعيفة وغير ملموسة... بل والادهى من ذلك... ما جرى تأكيده على لسان الحكومة العراقية من دعم بعض دول الجوار... جماعات إرهابية تعمل داخل العراق من اجل اسقاط النظام السياسي وعودة العراق الى مربع الفوضى، والمتابع لتصريحات اغلب المسؤولين في الحكومة العراقية حول الإرهاب... يجد أصابع الاتهام تشير الى أربع دول أساسية داعمة لأحداث الفوضى في العراق منذ عام 2003... (سوريا قبل ان تبتلى بداء الإرهاب، السعودية التي ضربتها العمليات الانتحارية مؤخرا، قطر المتهمة بكونها الداعم الرئيسي للحركات السلفية والمتطرفة، وبالأخص في سوريا، تركيا المتهمة بمساعدة المتطرفين على الجبهة السورية).
عندما بث تنظيم "داعش" خريطة الخلافة المفترضة للأقاليم التي يسعى للسيطرة عليها... لم يستثني دول الخليج من "رايته السوداء"... حتى ان كفر، على لسان زعيم التنظيم "البغدادي" والناطق باسم التنظيم "العدناني"، حكام الخليج... ووصفهم بأنهم أعوان المحتل واذنابه... وشبههم بحكم "ال سلول"... ووعد باسقاط عروشهم، وان نهاية ملكهم ستكون على يد التنظيم، وبما انه دائما ما يستغل الخلافات "الطائفية" كمدخل لإحداث "شرخ" ديني داخل المجتمعات المتعايشة... فقد شن مجموعة من الهجمات الانتحارية ضد المسلمين "الشيعة" في المملكة العربية السعودية، وبعدها انتقل الى استهداف المسلمين "الشيعة" في الكويت... ولا يعلم المتابعين أي دولة خليجية ستكون الشاهد على هجمة انتحارية جديدة تستهدف "الشيعة" و"التعايش السلمي" فيها... لكن النتيجة واحدة، ما حذر منه العراق وحكومته سابقا... اصبح حقيقة لا يمكن انكار وجودها بعد اليوم.
في السابق حذرنا من ترك العراق وحيدا اما الإرهاب والفكر المتطرف... فعزل العراق وابعاده عن التجمع الخليجي، لا يختلف كثيرا عمن يسيء للعراق في فعله وتصرفاته... فبعد أكثر من عقد من الزمن، ما زال "مجلس التعاون الخليجي"... على سبيل المثال... ينظر الى العراق وحكومته بعين "الطائفية"، بدلا من عين المساعدة والعمل المشترك، ويطالب من العراق جملة من الإصلاحات السياسية... في حين ان الاخرين يرفضون مجرد التفكير في قبول الدعوة لأي مطالب إصلاحية داخل مجتمعاتهم، وطوال هذه السنين كانت الميزة التي جمعت دول الخليج الأخرى (باستثناء العراق واليمن)... وجعلت منها بلدان مستقرة وغنية وغير مكترثة بما يجري من حولها... تدور حول امرين، أولهما: الامن والاستقرار النسبي في المنطقة، والثانية: الأموال الضخمة من عوائد البترول والنشاطات الاقتصادية الأخرى... وطبعا لا يمكن التعويل كثيرا على هذان الامران كثيرا.
فقد اثبتت الحوادث الأخيرة ان اختراق منظومة الامن والاستقرار ليست بالأمر العسير على الجماعات المتطرفة ومن يتعاطف معها داخل هذه البلدان... بل قد تؤشر على تداعيات أكبر مما يمر به العراق في حال عدم قدرتها على استيعاب الصدمة والصمود في وجه الجماعات الإرهابية... اما العامل الاقتصادي، فهو أضعف بكثير من العامل الأمني... وهو ما اثبتته تجربة هبوط أسعار النفط، التي تشكل المصدر الرئيس لأغلب عائدات الخليج... وبالتالي يصبح من الصعب على دول الخليج الحفاظ على استقرارهم في ظل غياب او انهيار عوامل القوة لديها.
ما طلبه العراق... ويطلبه اليوم... ليس بالكثير، فقط "تعاونوا على البر"... حتى يستطيع الجميع عبور الازمة بنجاح، بعيدا عن الانتقائية والمزاجية التي تحكم حكام الخليج، وهذه الخطوة تتطلب الكثير من الشجاعة... نحو تغيير الخطاب السياسي والديني... ومراجعة المناهج المتطرفة في المدارس الدينية والأكاديمية... ورفع القيود عن حرية التعبير والتمييز بين افراد المجتمع... مثلما تتطلب تعاونا امنيا وجهدا استخباريا لاحتواء تمدد التنظيم... قبل ضياع الفرصة... لان تنظيم "داعش" مفتون بالخليج... ولن يترككم بعد اليوم في حال سبيلكم.
اضف تعليق