وقد نظّمت عمليات قتل ومحارق في معسكر أوشفيتز – بيركيناو الموسّع، حيث كان يتم نقل الأسرى والسجناء إليه من مدينة كراكوف، وكلّما كانت تزداد أعداد السجناء، كان يتم اللجوء إلى القتل، وحسب بعض السجلات بلغ عدد القتلى نحو مليون و100 ألف إنسان...
حين قرأت خبر الاحتفال بالذكرى الـ 75 لتحرير “معسكر أوشفيتز” 27 يناير/كانون الثاني 1945 على أيدي الجيش الأحمر السوفيتي، استعدت حدثين مؤثرين في نفسي عشتُ تفاصيلهما:
الحدث الأول- زيارتي لهذا المعسكر قبل أكثر من خمسة عقود من الزمان، وذلك خلال مشاركتي العام 1969 باحتفالية التحضير للذكرى المئوية لميلاد لينين 22 أبريل/ نيسان/ 1970 حيث التأم اللقاء في مدينة كراكوف بولونيا، التي كان لينين قد عاش فيها بضعة أشهر، وقد نظمت الجهة المضيفة زيارة إلى معسكر أوشفيتز، ولا أنسى مدى تأثري البالغ على ما شاهدته وسمعته من أهوال تفوق حدّ التصوّر، ففي ساحة كبيرة وعميقة ذات سقف زجاجي، كانت تتناثر فيها عشرات الآلاف من فرش الأسنان والأحذية والملابس الداخلية والأمشطة والخواتم والساعات والمحفظات والصور والهوّيات الشخصية للضحايا الذين قتلوا في هذا المعسكر، مثلما توقّفت في أماكن أخرى منه عند آلات التعذيب وآثاره المختلفة على الجدران وفي الزنازين والممرّات والقاعات، فقد كان كل شيء فيه يئّنُ من فرط الألم على الرغم من مضي أكثر من عقدين حينها على تحريره.
مذكرات قيادي
أما الحدث الثاني- فهو الذي لفتت نظري إليه إحدى المستشرقات بشأن “مذكرات” إيغون ردليخ العضو القيادي البارز في المنظمة الصهيونية ماكابي هاكير، الذي كتب “يومياته” وإن كان بحذر شديد خوفاً من وقوعها بيد السجانين، حيث كان نزيلاً في أوشفيتز من العام 1940 ولغاية العام 1944. وتكشف “اليوميات”، التي أعدّها للنشر ييرجي بوهاتكا اسم مستعار في أواسط السبعينات، التعاون الوثيق بين الصهيونية والنازية بإرسال مئات الآلاف إلى أفران الموت مقابل إرسال بضع مئات من المتموّلين والقيادات الصهيونية إلى فلسطين، وقد تسنّى لي إعداد وترجمة الحلقات الأربعة التي نشرتها مجلة “المنبر”، لنشرها في مجلة الهدف الفلسطينية في أواسط الثمانينات، وكان قد تم العثور عليها في سقف أحد البيوت الحجرية في مدينة غودوالدوف التشيكية في العام 1967 في حين أعدم ردليخ على الرغم من تعاونه مع النازية.
كان أدولف إيخمان الضابط النازي الكبير في جهاز القوات الخاصة SS هو المسؤول عن نقل المبعدين إلى معسكرات الإبادة، حيث اتخذ القرار في مؤتمر فانزيه في 29 / كانون الثاني/1942 بتنظيم حملة إبادة في معسكر أوشفيتز والمعسكرات الستة الأخرى بما فيها معسكر النساء “رافينسبروك”، عبر آلة تدمير للقتل الجماعي بدوافع عنصرية استعلائية شكّلت جوهر النظرية النازية للحزب النازي الألماني، وذلك تحت عنوان ” الحل الثاني للمسألة اليهودية”.
سقوط برلين
جدير بالذكر أن أيخمان اختفى بعد سقوط برلين، وظلّت الموساد “الإسرائيلية” تبحث عنه، حتى توصّلت إلى مخبئه في الأرجنتين، فقامت باختطافه في العام 1960 ونقلته إلى تل أبيب وحاكمته ثم أعدمته. أما المسؤول عن المعسكر منذ تأسيسه فكان ردولف هوس حتى نوفمبر /تشرين الثاني 1943 . وقد نظّمت عمليات قتل ومحارق في معسكر أوشفيتز – بيركيناو الموسّع، حيث كان يتم نقل الأسرى والسجناء إليه من مدينة كراكوف، وكلّما كانت تزداد أعداد السجناء، كان يتم اللجوء إلى القتل، وحسب بعض السجلات بلغ عدد القتلى نحو مليون و100 ألف إنسان .
وبغض النظر عن التهويل أو التقليل من شأن عدد الضحايا، لكن رواية القتل كانت قائمة على قدم وساق، ويوثق متحف المعسكر الضحايا القادمين من هنغاريا وبولونيا وإيطاليا وبلجيكا وفرنسا وهولندا وكرواتيا وتشيكوسلوفاكيا وروسيا والنمسا وألمانيا وغيرها، وقد نجا عدد قليل من المعتقلين لم يزد عددهم عن 7 آلاف، لاسيّما بعد محاولة الـ SS تفريغ المعتقل والفرار غرباً مع قوافل الأسرى والسجناء بعد وصول الجيش الأحمر إلى سياج الأسلاك الشائكة.
في أوائل العام 1946 سلّمت سلطات الاحتلال السوفييتي أراضي المعتقل السابق إلى بولونيا، وارتفع النصب التذكاري 1979 في مدخله واعتبرته اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي.
سيبقى ما حصل في معسكر أوشفيتز محفوراً في الذاكرة الجماعية العالمية باعتباره من جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، لاسيّما باستذكار معاناة الضحايا وعذاباتهم، ولعلّ ذلك يذكّر اليوم ما حصل ويحصل للفلسطينيين من مجازر في دير ياسين وكفرقاسم ومذابح الحرم الإبراهيمي والمسجد الأقصى وجنين، إضافة إلى مذابح غزة والعدوان المستمر عليها، ناهيك عن حصارها الدامي منذ العام 2007 وإلى اليوم .
وما تزال المأساة الفلسطينية ماثلة للعيان وشاهد حي على الجرائم “الإسرائيلية”، حيث يحرم الشعب العربي الفلسطيني من أبسط حقوقه الإنسانية وفي مقدمتها حقه في الحياة والعيش بسلام وتقرير المصير والعودة إلى وطنه وإقامة الدولة الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، بل والأكثر من ذلك فإن حقوق الفلسطينيين وأراضيهم هي اليوم أكثر عرضة للمزايدة في سوق النخاسة الدولية، تحت عنوان “صفقة القرن” دون أي اعتبار إنساني أو حقوقي أو أخلاقي، حيث يجري قضمها وضمها واستيطانها وإجلاء أهلها سكان البلاد الأصليين.
اضف تعليق