برحيل الزعيم نلسون مانديلا، تكتمل فصول تجربة إنسانية وسياسية، سعت عبر كفاحها وصبرها ورؤيتها العميقة لطبيعة التطورات الاجتماعية والسياسية وشروط التحول من طور سياسي إلى طور آخر بكلف إنسانية وسياسية قليلة. وستبقى تجربة هذا المناضل الأفريقي مليئة بالدروس والعبر في كيفية مواجهته لنظام الفصل العنصري...
برحيل الزعيم نلسون مانديلا، تكتمل فصول تجربة إنسانية وسياسية، سعت عبر كفاحها وصبرها ورؤيتها العميقة لطبيعة التطورات الاجتماعية والسياسية وشروط التحول من طور سياسي إلى طور آخر بكلف إنسانية وسياسية قليلة. وستبقى تجربة هذا المناضل الأفريقي مليئة بالدروس والعبر في كيفية مواجهته لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وكيفية نسيان أو تناسي حجم الفظاعات التي ارتكبها النظام العنصري في جنوب أفريقيا بحق غالبية شعبه من السود وكيف تحكم في انفعالات الغضب والثأر، وتبنى مشروع التسامح ورفض كل أشكال الانتقام من ظالميه وظالمي شعبه خلال عقود طويلة من الزمن.
برحيل هذا المناضل، تكتمل فصول تجربة مريرة، مارس فيه الانسان أبشع صور الظلم وامتهان الحقوق والكرامات، وفي مقابل هذه الصور المليئة بصور الاضطهاد والظلم والقتل والاعتقال التعسفي، كانت هناك صورة العفو والتسامح ونسيان ما مضى وعدم الانحباس فيه، والعمل على بناء المستقبل بدون انتقام من أحد، أو استثناء أي مكون من مكونات الشعب.
إن هذه التجربة بكل فصولها ومحطاتها، جديرة بالتأمل العميق فيها، لاستخلاص الكثير من العبر الاجتماعية والدروس السياسية التي تجنب الكثير من دول العالم العربي والإسلامي المآسي والأزمات التي شهدتها دولة جنوب أفريقيا. فنلسون مانديلا بصبره وتسامحه وعفوه وقدرته على التحمل، تمكن من نقل شعب جنوب أفريقيا من سجن الانتقام إلى رحابة العفو ومن كره الآخر إلى محبته، ومن حقائق الفصل العنصري وغياب المساواة بكل أشكالها، إلى وحدة الشعب المسنودة بقانون ومنظومة حقوقية تضمن حقوق الجميع بدون تعسف أو افتئات أو تمييز.
ويحق لكل شعوب العالم في لحظة رحيل الزعيم نلسون مانديلا، أن تقف احتراما لهذا العملاق الإنساني، وتعمل على تظهير وإبراز حقائق تجربته الإنسانية والسياسية، وفي هذا السياق نود التأكيد على الحقائق التالية انطلاقا من التجربة الطويلة لنلسون مانديلا:
1ـ إن الأوضاع السياسية والاجتماعية القائمة على الفصل بين الناس لاعتبارات لا كسب للإنسان فيها، مهما كانت قوتها وقدراتها الذاتية والموضوعية إلا أنها بحكم التاريخ لا مستقبل لها. فالنظام السياسي القائم آنذاك في جنوب أفريقيا والذي يمارس الفصل العنصري بين شعبه، يمتلك كل مقومات وأسباب القوة الذاتية، كما أن أغلب الدول الكبرى في العالم كانت تدعمه وتغطي جرائمه العنصرية. إلا أن هذه الأوضاع لم تصمد أمام حركة التاريخ المتجهة دوما صوب المساواة بين الناس وبناء أوضاع سياسية بعيدا عن نزعات الظلم الفاحش وأقرب إلى قيم العدالة والمساواة.
فخلل الخيارات سيقود إلى انهيار نتائجها وأسبابها، لأنه وببساطه شديدة حركة التاريخ لا تنسجم وهذا النهج القائم على الفصل والتمييز بين البشر بدون مبررات شرعية وقانونية وإنسانية. وانهيار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مع كل ما يمتلك من أسباب الحصانة والقوة، هو أحد الأمثلة الناصعة على حقيقة ما نقول. فكل فكرة لا تحترم الإنسان في وجوده وحقوقه المادية والمعنوية فإن مآلها الفشل الإنساني والاجتماعي والسياسي.
2ـ إن الاستقرار السياسي والاجتماعي العميق مرتبط بشكل دائم بالتطوير المستمر لنظام الرضا والقبول بين الشعوب وأنظمتها السياسية. فمهما كانت القوة العسكرية المتوفرة، إلا أنها لا تجلب الاستقرار على نحو عميق لأي مجتمع ودولة. مع إيماننا العميق بأهمية الاهتمام ببناء القوة العسكرية وتطوير قدراتها البشرية والتسليحية، إلا أنها إذا لم تستند إلى دعم شعبي فإن قدرتها على الصمود والمواجهة ستكون محدودة.
وهذا الكلام ينطبق على كل العوامل المادية والخارجية الأخرى. فدولة جنوب أفريقيا تمتلك كل أسباب القوة العسكرية والاقتصادية إلا أن غياب حالة الرضا العميق بين نظامها السياسي وشعبها بسبب سياسات التمييز العنصري، هو الذي أفضى إلى إخفاق التجربة والانخراط في مشروع التحول.
ولا ريب أن نظام جنوب أفريقيا، حينما أنهى سياسات التمييز العنصري أضحى أكثر قوة ومناعة وصلابة من النظام السابق القائم على سياسات الفصل العنصري.
فتطوير نظام الرضا عبر وسائل وآليات سياسية واقتصادية وحقوقية وتنموية، هو الذي يمد كل الأنظمة السياسية بصرف النظر عن أيدلوجيتها بأسباب القوة الحقيقية.
وفي هذه اللحظة التاريخية التي تمر بها المنطقة العربية والإسلامية، معنية كل دول هذا المجال الحضاري بإعطاء الأولوية إلى تطوير نظام رضا الشعوب، لأن هذا النظام هو مصدر القوة الحقيقية لأي تجربة سياسية واجتماعية، وبفعل هذا النظام وتطويره المستمر تستطيع كل هذه التجارب بناء قوتها على أسس صحيحة وعميقة، ولا يمكن لأي قوة قهرها أو فرض إرادتها عليها.
3ـ تعلمنا تجربة نلسون مانديلا الإنسانية والسياسية، أن البعد الإنساني والمناقبيات الأخلاقية هي الغالبة في المحصلة النهائية على البعد الوحشي والعدواني لدى الانسان.. فمهما تعاظمت وحشية الإنسان وعدوانيته، من الضروري أن يتشبث الجميع بإنسانيتهم وأخلاقهم. فحجم الظلم الذي تعرض إليه السود في جنوب أفريقيا وما تعرض إليه شخصيا نلسون مانديلا إلا أن هذا الظلم لم يخرج هذا الزعيم المدرك لحائق التاريخ وحركته المستقبلية عن بعده الإنساني في النظر إلى مختلف الأمور والقضايا.. فمهما توحش المتوحشون وازداد أهل العدوان عدوانا، ينبغي أن لا نخضع لمنطقهم ونمارس ما يمارسوه.. فنلسون مانديلا أجبر الجميع على احترامه بإصراره على رفض العدوان والانتقام.. ومن خلال الصبر والتحمل والنضال السلمي تتمكن السود في جنوب أفريقيا من الوصول إلى أهدافهم الوطنية وأنهوا حكم الفصل العنصري.
وتعلمنا تجربة الزعيم مانديلا أنه في لحظات التحول والانتقام الديمقراطي، أحوج ما تكون الشعوب إلى منطق العفو وسياسات التسامح ونسيان الماضي بكل آهاته وآلامه.
من يعمل من أجل بناء المستقبل على أسس جديدة، عليه أن يتخلى عن خيار الانتقام ونبذ سياسات الاستئصال وممارسة العنف. فالعفو والصفح والتسامح والعدالة، هذه القيم ومتوالياتها ومتطلباتها هي القادرة على هزيمة كل مشروعات الفصل والتمييز بين الانسان وأخيه الإنسان.. هذا ما تؤكده تجربة نلسون مانديلا، وهذا ما وصل إليه في السياسة وإدارة النزاعات ذات الطابع العميق والتاريخي.
اضف تعليق