q
لم تكن التحدّيات التي تواجه التجربة الجديدة في ميانمار بشرية فقط، تتعلّق بالانتقال الديمقراطي والعقبات التي تقف في طريقه فحسب، بل كانت كارثية طبيعية أيضاً، فقد واجهت البلاد كارثتين طبيعيتين هما الزلزال الذي ضربها، والفياضانات الكبرى التي اجتاحتها لدرجة أن أكثر من 600 ألف مشرّد...

لم تكن التحدّيات التي تواجه التجربة الجديدة في ميانمار بشرية فقط، تتعلّق بالانتقال الديمقراطي والعقبات التي تقف في طريقه فحسب، بل كانت كارثية طبيعية أيضاً، فقد واجهت البلاد كارثتين طبيعيتين هما الزلزال الذي ضربها، والفياضانات الكبرى التي اجتاحتها لدرجة أن أكثر من 600 ألف مشرّد عانوا من ظروف قاسية، وأدّت الأمطار الغزيرة إلى انهيارات أرضية كانت نتائجها وخيمة.

لنحو قرن من الزمان خضعت ميانمار (وهو اسمها الجديد بعد أن استبدل الاسم القديم "بورما" في العام 1989)، للاستعمار البريطاني، الذي حكمها خلال 1948 - 1852، وبعدها عانت من حكم الدكتاتورية العسكرية نحو نصف قرن أيضاً (من الاستقلال ولغاية عام 2016)، علماً بأن الانتقال إلى الحكم المدني بدأ في العام 2011، وحقّق إصلاحات سياسية محدودة، لكنه تباطأ وتلكأ وانتكس في العديد من القطاعات، على الرغم من وجود بعض هوامش الحرّيات، ولا سيّما حرّية التعبير، وخصوصاً في الإعلام.

ولهذه الأسباب نستطيع أن ندرك المصاعب الجدّية التي تواجه التجربة الميانمارية للانتقال الديمقراطي، ولا سيّما في ميدان العدالة الانتقالية، إذا ما عرفنا تاريخها خلال القرن ونصف القرن الماضيين، تُضاف إليه عوامل جديدة، وهي انفجار عناصر التعصّب والتطرف المجتمعية، خصوصاً بعد وصول تجربة الحكم السابقة إلى طريق مسدود، الأمر الذي وضع البلاد على مفترق طرق، فإما استمرار القديم على قدمه، وهذا ما قد يؤدي إلى الانفجار، أو حلحلة الأوضاع باتجاه تغيير يتم عبر الانتخابات، وهذا ما حصل بالفعل.

وقد شهدت ميانمار، التي يبلغ عدد سكانها 51 مليون نسمة وتتكوّن من 130 مجموعة ثقافية دينية وسلالية وإثنية وفيها نحو 30 لغة، تطوّراً سياسياً جديداً بإجراء أوّل انتخابات حرّة، وتشكيل حكومة منتخبة، واختيار رئيس جديد للبلاد (مارس / آذار 2016)، ولا تزال التجربة الوليدة تواجه تحدّيات كبرى، خصوصاً أن التركة العسكرية الدكتاتورية ثقيلة، وتأثيراتها ونفوذها لا يزالان باقيين، إضافة إلى استمرار تأثير القوات المسلّحة، سواء على الصعيد الدستوري (النص بأن يكون 25% من أعضاء البرلمان من العسكريين وفقاً لدستور العام 2008) أو على الصعيد العملي والسياسي.

وعلى الرغم من أن ميانمار كانت خلال الحرب العالمية الثانية بؤرة مواجهة يابانية -بريطانية، فإن علاقاتها اليوم طيبة مع اليابان وكوريا الجنوبية، وجيّدة مع الهند والصين التي تتحدث النسبة الأكبر من السكان بلغتها، وهي في الوقت ذاته عضو في المجموعة الآسيوية. كما أن علاقة ميانمار وثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وقد رفع عنها الرئيس الأمريكي باراك أوباما عقوبات بلاده الاقتصادية التي كانت مفروضة عليها، حيث كانت تعتبر "دولة منبوذة"، وأعلن ذلك عند زيارة زعيمة الرابطة الديمقراطية وزيرة خارجية ميانمار أونغ سان سوتشي المكتب البيضاوي، وتأتي هذه الخطوة المهمة بعد سنوات من التقارب الميانماري - الأمريكي.

ولكن وجهاً آخر سلبياً رافق التطوّرات الإيجابية التي حصلت في ميانمار، ففي السنوات الخمس الأخيرة ارتفعت وتيرة التعصّب وأعمال العنف ضدّ المسلمين الذين يزيد عددهم على مليون نسمة، خصوصاً مع ظهور وتنامي نزعة قومية فوقية في البلاد قادها اتجاه أحادي عرقي وديني تزعمه راهب بوذي ويُعرف التشكيل التنظيمي لهذا الاتجاه اختصاراً باسم "ماباثا".

وقد نجحت "الماباثا" في صياغة أربعة قوانين تمييزية رجعية ومتخلفة الأول - قانون حماية العرق والدين، والثاني - قانون الحدّ من عدد السكان، والثالث - قانون زواج النساء البوذيات، والرابع - تغيير الديانة والزواج الأحادي، وهي قوانين أحدثت صراعاً وعنفاً في المجتمع، واتهِم من عارض هذه القوانين بأنه "خائن"، واعتبرت هذه القوانين استهدافاً للمسلمين، في حين برّرها أنصارها بأنها تحدّ من "الغزو الإسلامي".

وخلال عام 2015 ارتفع عدد سجناء الرأي وتعرّضت حركات احتجاج لأعمال عنف، كما ازدادت هجرة المسلمين المعروفين باسم "الروهينغا" من ميانمار إلى بنغلاديش بحكم أصولهم البنغالية وإلى بلدان أخرى، وحسب الأمم المتحدة، فقد خاض هذه المغامرة نحو 100.000 شخص ما بين عام 2014 و2015، وتعرّضت العديد من القوارب إلى الغرق وتوفي العشرات من الفارين، ومُنع اللاجئون من الوصول إلى تايلند وماليزيا وأندونيسيا، إضافة إلى نزوح داخلي شمل نحو 140 ألف نازح من مسلمي الروهينغا، بأوضاع صحية ومعيشية ونفسية سيئة للغاية.

وإذا كان الحكم العسكري الاستبدادي قد تعامل مع الجميع بمنطق القوة، فإن الانتقال إلى الوضعية المدنية فجّر صراعات عديدة كانت غير منظورة، وقد كان نصيب المسلمين الجزء الأعظم منها. فهل سيستطيع الرئيس المنتخب هيتين كياو أن يضع حداً لها، خصوصاً أنه بدأ عهده بشيء من الانفراج السياسي، فقام بإطلاق سراح عشرات المعتقلين والسجناء السياسيين وأصدر عفواً عاماً، الأمر الذي رجّح موضوع المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية ووضعه في جدول عمل الحكم الجديد، إضافة إلى مطالبات مؤسسات المجتمع المدني.

وعلى الرغم من أن الرئيس الجديد هيتين كياو حاز على 360 صوتاً من مجموع 652 نائباً، فإنه سيكون - بحكم المراتب الحزبية - خاضعاَ لقيادة "حزب الرابطة من أجل الديمقراطية"، التي تتزعمها سوتشي الحائزة على جائزة نوبل للسلام، والتي كان من المؤمل أن تكون في موقع الرئاسة لولا قيود وضعت أمام توليها هذا المنصب في حقبة النظام السابق، وهي تتعلّق بالجنسية البريطانية التي يحملها نجلاها، لكنها أنيطت بها حقيبة وزارة الخارجية.

وإذا كان السلام المنشود وتحقيق المصالحة الوطنية والمجتمعية هدفاً يُراد الوصول إليه، كما هو معلن، خصوصاً بالتخلص من إرث الماضي، فإن الأمر يقتضي تحديد المسؤوليات وكشف الحقيقة، وجبر الضّرر وتعويض الضحايا، وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، لمنع تكرار ما حدث من جهة، ولمواجهة أعمال التطرّف والعنف من جهة ثانية، وهو ما دعا سوتشي إلى التصريح خلال زيارة كوفي أنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة في 6 أيلول (سبتمبر) 2016، قائلة: "علينا تحقيق السلام المنشود".

وكان أنان قد دعا لإعادة الثقة وإيجاد السبل الكفيلة بالتمسّك بالقيم المشتركة القائمة على العدل والإنصاف والمساواة، وهو ما قابله البوذيون بفتور ملحوظ، خصوصاً أن البلاد قد هيمنت عليها نزعات الإقصاء والاستئثار، وهو ما يضعها على مفترق الطرق.

اضف تعليق


التعليقات

الكاتب الأديب جمال بركات
مصر
العالم الذي اذا قتل واحدا من الغرب أقام الدنيا ولم يقعدها صمت على القتل والتنكيل بآلاف المسلمين
ميانمار بلد به خليط من البشر لكن الكراهية وأعمال العنف والإقصاء موجهة فقط للمسلمين من المتعصبين
المسلمون في ميانمار أو ماكانت بورما لهم الله فنحن أضعف من أن نساعدهم وندعوه سبحانه وتعالى أن ينصرهم على الظالمين
أحبائي
دعوة محبة
أدعو سيادتكم الى حسن التعليق وآدابه....واحترام بعضنا البعض
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
جمال بركات...مركز ثقافة الألفية الثالثة2018-12-31