راج بيرسود، أدريان فورنام
لندن ــ في عطلة نهاية الأسبوع الفائت، فتح ستيفن بادوك النار على حضور مهرجان لموسيقى الريف في مدينة لاس فيجاس بولاية نيفادا من فندق يطل على الساحة التي أقيم عليها الحفل، فقتل ما لا يقل عن 59 شخصا وأصاب أكثر من 500 آخرين بجراح. وفي نهاية المطاف، وجِد بادوك، وهو محاسب سابق يبلغ من العمر 64 عاما وصحيفة سوابقه خالية من الجرائم، ميتا في غرفته بالفندق وبجانبه 23 سلاحا ناريا، بما في ذلك أكثر من عشرة أسلحة هجومية (بندقية آلية أو شبه آلية). وفي وقت لاحق عثرت قوات الشرطة على 19 سلاحا ناريا آخر، ومتفجرات، وعِدة آلاف من الطلقات في منزل بادوك. ولكن ما لم تتوصل إليه السلطات بَعد هو الدافع.
في الأيام المقبلة، ربما يتضح المزيد من التفاصيل عن عقلية بادوك وأهدافه. ولكن من يطلق النار على حشد من الناس على هذا النحو، والذي يمكننا أن نطلق عليه وصف "الذئب المنفرد" ــ من يرتكب جريمته منفردا ولا تربطه علاقة بأي حركة أو إيديولوجية ــ لا يشكل ظاهرة جديدة، وتزودنا مثل هذه الواقعة بأدلة مهمة عن الدوافع والعمليات الفكرية التي تدور في ذهن أولئك الذين يطلقون النار على حشود من الناس.
لا يظل أغلب مرتكبي هذا النوع من القتل الجماعي على قيد الحياة بعد هجماتهم؛ فهم إما يقتلون أنفسهم أو يتركون لقوات الشرطة مهمة قتلهم. ولكن أولئك الذين بقوا على قيد الحياة بعد هجماتهم أظهروا بعض السمات المشتركة، والتشخيصان الأكثر شيوعا لمثل هذه الحالات هما اضطراب الشخصية النرجسية والفصام البارانويدي (المصحوب بجنون العظمة). وكانت هذه هي الحال مع أندرس بريفيك، الإرهابي اليميني المتطرف النرويجي الذي فَجَّر في عام 2011 سيارة فان مفخخة بقنبلة، مما أدى إلى مقتل ثمانية أشخاص، وذلك قبل أن يطلق النار على رواد معسكر صيفي للشباب فيقتل 69 شخصا من المشاركين. ولا يزال القاتل قابعا في أحد سجون النرويج.
ويعزز فحص سلوك مثل هؤلاء الأشخاص قبل الهجمات هذا الرأي. في كتابه بعنوان "دليل وايلي لسيكولوجية إطلاق النار على حشد من الناس"، قام جرانت دوي، مدير البحوث والتقييم في إدارة شؤون الإصلاحيات في ولاية مينيسوتا، بفحص 160 حالة إطلاق نار على حشود من الناس وقعت في الولايات المتحدة في الفترة من عام 1915 إلى عام 2013.
وقد وَجَد دوي أن تشخيص حالة 60% من الجناة كان إما الخلل النفسي أو أنهم أظهروا علامات اضطراب عقلي شديد قبل تنفيذ هجماتهم. ونحو ثلث هؤلاء كانوا على اتصال بمتخصصين في الصحة العقلية، والذين شخصوا حالاتهم في الأغلب الأعم بأنهم مصابون بفصام جنون العظمة. وكان التشخيص الثاني الأكثر شيوعا الاكتئاب.
ولكن لأن أغلب الأشخاص الذين يعانون من هذه الاضطرابات لا يؤذون عامة الناس، فإن هذا التشخيص لا ينبئنا بالقصة كاملة. يقول دوي إن الفارق ربما يكمن جزئيا في شعور حاد بالاضطهاد ــ ورغبة شديدة في الانتقام.
ويدعم هذا الرأي بول مولن، الطبيب النفسي الشرعي الأسترالي. فاستنادا إلى تحقيق مفصل شمل خمسة من مرتكبي القتل الجماعي والذين قام هو شخصيا بفحصهم. خلص مولن إلى أن مثل هؤلاء القتلة يناضلون في محاولة التوفيق بين تصوراتهم العظيمة لأنفسهم وعجزهم عن تحقيق النجاح في العمل أو العلاقات الشخصية. وهم يقررون أن التفسير الوحيد هو أن الآخرين عازمون على تخريب حياتهم.
الواقع أن دراسة مولن كشفت أن الطريق إلى جريمة القتل الجماعي نمطي إلى حد ما. فقد كان كل مواضيع دراسته عُرضة للتسلط أو الإقصاء الاجتماعي في سنوات طفولتهم. وكانوا جميعا متشككين ومتزمتين، وهي السمات التي ساعدت في تعميق عزلتهم. وكانوا يحملون آخرين دوما المسؤولية عن مشاكلهم، معتقدين أن مجتمعهم رفضهم؛ إلا أنهم فشلوا في وضع احتمال أن يكونوا هم أنفسهم مضجرين لغيرهم ولا يفكرون سوى في ذواتهم.
من الواضح أن الحالات التي تناولها مولن بالدراسة كانت تحمل الضغينة لكل من اعتبروهم جزءا من المجموعة أو المجتمع الذي رفض قبولهم. وكانوا يجترون بلا هوادة مذلتهم في الماضي، وهي العادة التي غذت السخط في أنفسهم، وضخمت خيالات الانتقام في نهاية المطاف، الأمر الذي قادهم إلى استخدام القتل الجماعي لإيذاء أولئك الذين يتصورون أنهم آذوهم ــ حتى وإن كان ذلك يعني "الترحيب بالموت" لأنفسهم.
هنالك إذن نوع من المنطق المعوج عادة في اختيار مثل هؤلاء القتلة لضحاياهم. ويتجلى هذا المنطق بوضوح في حالة إطلاق النار في المدارس، مثل مذبحة مدرسة كولومبين الثانوية في عام 1999: معاقبة أولئك الذين أقصوا الجناة اجتماعيا. وعلى نحو مماثل، تندلع شرارة مثل هذه النوبات في أماكن العمل غالبا نتيجة لفصل الجاني أو تسريحه. ولكن حتى في الحالات حيث تبدو أهداف الجاني عشوائية، يظهر المنطق في نهاية المطاف عادة، حتى ولو كانت مسألة معاقبة جماعة بكاملها أو المجتمع بأسره.
من الواضح أن العديد من التساؤلات تظل بلا إجابة في حالة بادوك، بدءا بالتساؤل حول سبب اختياره لهذا الحفل الموسيقي على وجه التحديد لهجمته. ولكن ملامح قصته بدأت في الظهور. وما يؤكد التوجه الفردي الانعزالي ما قاله أحد جيرانه: إن بادوك "الغريب الأطوار" كان "لا يخالط أحدا"؛ وكان العيش بجواره "أشبه بالعيش بجوار لا شيء". كما تبين أيضا أن بادوك أقام دعوى قضائية ضد أحد فنادق لاس فيجاس حيث انزلق وسقط؛ ويُعَد الميل إلى التنازع القضائي إحدى السمات المميزة المحتملة للساخطين والمصابين بجنون العظمة والاضطهاد.
يزعم دوي أن مثل هؤلاء القتلة المسلحين، على النقيض من الاعتقاد الشائع، لا "ينفجرون فجأة". ورغم أن ما يقرب من ثلثي مطلقي النار على حشد من الناس يتعرضون لحادثة صادمة قبل تنفيذ هجماتهم مباشرة ــ فقدان الوظيفة أو نهاية غير سارة لعلاقة شخصية عادة ــ فإن أغلبهم ينفقون عِدة أسابيع أو حتى سنوات في التأمل والدرس ويعدون العدة للانتقام. وفي حالة بادوك، ربما يفسر هذا التخطيط الهادئ مستودع الأسلحة الذي وجِد في منزله وغرفته في الفندق التي استأجرها قبل عِدة أيام من الهجوم.
بعد المذبحة، ينتحر أكثر من نصف منفذي إطلاق النار على الحشود العامة مباشرة أو يستفزون أفراد الشرطة لحملهم على قتلهم. وهذا المعدل أعلى بنحو عشر مرات من نظيره بين مرتكبي جرائم القتل في عموم الأمر. ويتساءل دوي: هل يكشف لنا هذا عن مدى الاختلال العقلي الذي ابتلي به هؤلاء الجناة؟ ربما يعتقدون أنهم لم يعد بوسعهم أن يتحملوا عذاب الحياة؛ وبمجرد "تسوية الحساب" عن الازدراء المتصور الذي دفعهم إلى فعلتهم، ينتفي لديهم السبب للاستمرار على قيد الحياة.
يزعم مولن أن النص المعتاد لهذا النمط بعينه من الانتحار أصبح راسخا في الثقافة الحديثة، ويستمر في اجتذاب الراغبين في أداء الدور الرئيسي. وإذا كنا عاجزين عن استخدام المعرفة التي استخلصناها من تجارب الماضي لمنعهم من الصعود إلى خشبة المسرح، فسوف يستمرون في استهداف جماهير الناس.
اضف تعليق