هارولد جيمس
برينستون ــ في المواجهة المخيفة المرهِقة للأعصاب بين اليونان والاتحاد الأوروبي، يبدو أن السلطات اليونانية تطالب بتفويض ديمقراطي يمتد إلى خارج حدود بلادها. والواقع أن الحكومة الجديدة بقيادة حزب سيريزا من أقصى اليسار تصور نفسها ليس فقط باعتبارها مفاوضاً يحاول الحصول على صفقة جيدة من أجل اليونان، بل وأيضاً بوصفها نصيراً لحل لمشكلة يفترض أنها أوروبية والتي تتمثل في الديون الحكومية المفرطة. ولكن هذا الموقف لم يدرك أن محاوري اليونان محملين بمسؤولية ديمقراطية.
ربما يكون بوسعنا أن نعتبر أن السياسة الديمقراطية تنطوي على نوعين من المهام: صياغة القوانين استناداً إلى مبادئ عامة، وإعادة توزيع الموارد عن طريق الضرائب والإنفاق الحكومي. وداخل أي دولة منفردة، تصبح هذه المهام غير معقدة نسبيا. ولكن العلاقات الدولية لأي دولة من الممكن أن تفرض قيوداً قوية على حكومتها.
وتصبح مثل هذه القيود قوية بشكل خاص عندما يكون لزاماً على الحكومة أن تعمل ضمن نظام سياسي أوسع، كما هي الحال في اليونان بحكم عضويتها في الاتحاد الأوروبي. ولكن أي عملية تكامل، سواء كانت أوروبية أو عالمية، تتطلب بعض التعديل للأفضليات والقوانين المحلية. وسوف تكون قدرة الحكومة على إعادة التوزيع أيضاً محدودة إذا تسبب تحصيل الضرائب في حمل رأس المال أو أصحاب الدخول المرتفعة على الفرار من البلاد.
وفي عرضه للحجج الداعمة لخفض أعباء ديون اليونان، يعتمد حزب سيريزا بشكل كبير تاريخ ألمانيا، الدائن الرئيسي لليونان وفي نظر العديد من اليونانيين الخصم الأساسي لبلادهم. ووفقاً لوصف سيريزا للأحداث، فإن تجربة ألمانيا في فترة ما بين الحربين في الديمقراطية فشلت لأن دائنيها الدوليين فرضوا عليها التقشف. ووفقاً لهذه الحجة فإن ألمانيا وبلدان الاتحاد الأوروبي كافة لابد أن تطبق هذا الدرس على اليونان.
من المؤكد أن الحجة تبدو مُقنِعة، وثمة جانب آخر من قياس سيريزا يبدو للوهلة الأولى وكأنه يغلق القضية: فاليونان كانت واحدة من البلدان الأكثر معاناة بعد انهيار جمهورية فايمار الألمانية في عام 1933، فخلال الاحتلال النازي، أرغِمَت الحكومة على تزويد ألمانيا بقرض لم تسدده حتى الآن. وبالتالي فإن ألمانيا تتحمل مسؤولية تاريخية تجاه شركائها في جنوب أوروبا.
ولكن التاريخ من غير الممكن أن يوضع في وعاء بهذا القدر من الترتيب المتقن، وهناك بعض الثغرات القاتلة التي تعيب تفسير سيريزا. على سبيل المثال، برغم أن التعويضات التي طالب بها المنتصرون في الحرب العالمية الأولى كانت مرهِقة بكل تأكيد، فقد بات من الواضح في عام 1932 أنها لن تسدد أبدا. ومع هذا فإن وقف السداد لم يسفر عن استقرار السياسة الألمانية، بل على العكس من ذلك، أدى إلى فتح الطريق أمام أجندات متزايدة التطرف.
ولو وصل الشعبويون في البلاد (النازيون) إلى السلطة قبل عام 1932، فإنهم كانوا سيواجهون اختياراً مستحيلا. فإذا استمروا في سداد التعويضات أو حاولوا التفاوض مع "دائني" ألمانيا فإن هذا كان ليفقدهم مصداقيتهم في نظر أنصارهم. ولكن البديل ــ تنفيذ برنامجهم والتخلف عن سداد ديون ألمانيا ــ كان ليشعل شرارة أزمة مالية أشد عمقا (وربما الغزو العسكري).
وبعد تعليق أقساط الدين فقط أصبحت استجابة ألمانيا لأزمة الكساد الأعظم شديدة التدمير. فعندما وصل أدولف هتلر إلى السلطة، قدم حلاً جديداً تماماً لمشكلة إعادة التوزيع. فإذا كانت موارد ألمانيا محدودة، فما عليه إلا أن يعيد توزيع موارد بلدان أخرى ــ موارد بلدان مثل اليونان.
وهذا الرأي يقلب حجة سيريزا رأساً على عقب. فمثل حل هتلر، يُعَد اقتراح إلغاء الديون اليونانية محاولة لإعادة توزيع مكاسب دول أخرى. وإذا نجح هذا، فمن شأنه أن يرهق كل دولة أخرى في منطقة اليورو، بما في ذلك بلدان مثل إيطاليا وأسبانيا، والتي اضطرت إلى شد الحزام من تلقاء نفسها.
ومؤخراً استشهد وزير المالية اليوناني يانيس فاروفاكيس بدرس من تاريخ بلاده القديم: "في بعض الأحيان، تعمل أكبر وأقوى الديمقراطيات على تقويض أنفسها بسحق البلدان الأصغر حجما". ولكن ينبغي له أيضاً أن يضع في الحسبان النتيجة الطبيعية: فالبلدان الصغيرة التي تبحث عن مكاسب سهلة عن طريق تفجير النظام الدولي لن تتمكن إلا من تقويض أنفسها في نهاية المطاف.
عندما تستخدم الديمقراطية لتبرير تحويل أعباء دولة ما إلى جيرانها، فإن التكامل يصبح مستحيلا ــ وقد تتعرض الديمقراطية والنظام الدولي للخطر. وتماماً كما قد تعمل العدوى المالية على نشر الشكوك في السوق عبر الاقتصادات المجاورة، فإن العدوى السياسية أيضاً من الممكن أن تنشر تبني عقلية المحصلة صِفر.
وإذا كان لأوروبا أن تجد حلاً لمشاكلها الاقتصادية، فسوف يكون لزاماً علينا أن تتغلب على تحدياتها السياسية أولا، وأن تعمل على صياغة شكل من المداولات التي تشكل كل الحكومات المنتخبة في منطقة اليورو (أقرب الكيانات الحالية إلى هذا الشكل هو مجموعة اليورو لوزراء مالية منطقة اليورو). وما دامت المفاوضات لا تتجاوز ألعاب اختبار الشجاعة التي تمارسها الحكومات الوطنية، فإن النتيجة الوحيدة هي الفوضى ــ وليس في الأسواق فقط.
اضف تعليق