أندريس فيلاسكو
سانتياجو ــ تُرى من أين تأتي النخب في أميركا اللاتينية؟ إذا كان لنا أن نسترشد بالقصص الواقعية السحرية التي حظيت بشعبية كبيرة في الولايات المتحدة وأوروبا، فإن النخب الحالية تنتمي إلى واحدة من 14 عائلة (أجل، هذا هو الرقم دائما) التي امتلكت منذ عهد الاستعمار كل الأراضي الصالحة للزراعة ــ فضلاً عن كل شيء آخر.
ولكن الواقع أكثر تعقيداً من الخيال. ففي أغلب بلدان أميركا اللاتينية، تعلمت الأسر الحاكمة التقليدية منذ فترة طويلة كيف تتقاسم مكانها على الطاولة مع أنواع مختلفة من النخب: من أبناء المناطق الحضرية، والمهنيين، والمتعلمين من خريجي أفضل المدارس والجامعات العامة في المنطقة. ولكن في شيلي، ربما توشك هذه الحال أن تتغير.
الواقع أن المعهد الوطني في شيلي، وهو من أكثر المدارس الثانوية للبنين تنافسية، قديم قِدم الجمهورية ذاتها. والمعهد لا يتقاضى رسوماً ويعتمد نظام الالتحاق به بشكل كامل على الجدارة، وهذا يعني أن الطلاب من الطبقات المتوسطة والعاملة يشكلون الغالبية العظمى من مجموع الطلاب هناك.
في اختبارات القبول في الكليات في العام الماضي، كان 22 من طلاب المعهد متفوقين على المستوى الوطني ــ وهو عدد أكبر كثيراً من التسعة الذين درسوا في ثاني أكثر المؤسسات التعليمية نجاحاً في البلاد، وهي مدرسة كاثوليكية خاصة مكلفة تتولى إدارتها منظمة أوبوس داي المحافِظة التابعة للكنيسة. وقد تخرج 18 رئيساً شيليا، وأربعة من آخر سبعة، بما في ذلك الرئيسة الحالية ميشيل باشيليت، في المعهد ونظيره للنساء الشابات "ليسيو 1".
وشيلي ليست فريدة في هذا الصدد. فمن الكلية الوطنية في بوينس آيرس إلى مدرسة ستوفيسانت الثانوية في مدينة نيويورك، كانت سجلات إنجاز المؤسسات العامة والقائمة على الجدارة والمجانية طويلة ومتميزة في مختلف أنحاء الأميركتين.
وقد يتوقع المرء أن مثل هذه المدارس قد تجعل زعيمة تقدمية مثل باشيليت فخورة ــ خاصة وأنها ذاتها درست فيها. غير أنها اقترحت خطة، وافق عليها الكونجرس الشيلي مؤخرا، من شأنها أن تقلب النظام رأساً على عقب، وتسمح للمعهد الوطني وما لا يقل عن عشرين من المدارس العامة العالية التنافسية الأخرى في مختلف مدن شيلي باختيار 30% فقط من طلابها عبر اختبارات القبول، على أن يتم اختيار البقية عن طريق القرعة. وبطبيعة الحال، يشعر طلاب ومعلمو وخريجو هذه المدارس المتضررون بالاستياء الشديد.
فما الذي قد يدفع أي شخص إلى إضعاف المدارس العامة باسم المساواة؟ الواقع أن مؤيدي هذا الإصلاح يسوقون حجتين ــ وكل منهما غير مقنعة.
تقول الحجة الأولى إن إنجازات هذه المدارس تبدو أعظم من حقيقتها. فمن خلال اختيار أقوى الطلاب فقط، كما يزعم المنتقدون، تضمن هذه المدارس نتائج قوية، من دون الاضطرار إلى إضافة الكثير من القيمة.
وهو نمط نموذجي من المشاكل "الداخلية المنشأ": فهل يتفوق الطلاب بسبب نوعية المدرسة أم أن المدرسة تحقق النتائج القوية بسبب نوعية الطلاب؟
للإجابة على هذا التساؤل، قارنت ورقة بحثية حديثة بين الأداء في اختبار موحد من قِبَل الطلاب الذين لم يتمكنوا بسبب فارق ضئيل من الالتحاق بالمعهد والطلاب الذين التحقوا بالمعهد بالفعل. وقد تبين أن فجوة الأداء بين المجموعتين اتسعت، وأن الفارق كان كبيراً من الناحية الإحصائية. باختصار، هناك سبب يجعلنا نعتقد أن مدارس النخبة مثل المعهد الوطني تحدث فارقاً في مستويات طلابها التحصيلية.
والواقع أن المنتقدين، الذين ساعدوا في صياغة الإصلاح المقترح يدركون هذه الحقيقة. وهم يزعمون أن ميزة الأداء هي بالضبط السبب وراء ضرورة فتح أبواب مثل هذه المدارس للجميع، وبدون اختبارات قبول.
الواقع أن هذا الاقتراح له وقع طيب لميله إلى المساواة؛ ولكن من غير الواضح تماماً ما إذا كانت هذه المدارس ومعلموها، أياً كانت مهارتهم، قادرين على إحداث مثل هذا التأثير الكبير على مجموعات مختارة عشوائياً من الطلاب. ويصبح التحدي كبيراً بشكل خاص بالنسبة للمدارس التي تركز على الرياضة أو الموسيقى أو العلوم أو الفنون البصرية. فعلى أية حال، ليس كل من يمتلك ساقين يستطيع أن يلعب كرة القدم بمهارة ليونيل ميسي، وليس كل من لديه حنجرة قادر على الغناء مثل ماريا كالاس.
إن مدرسة برونكس الثانوية للعلوم في نيويورك تقبل أطفال المهاجرين وتحولهم إلى بعض من أبرز العلماء على مستوى العالم. ولا يستطيع حتى أكثر داعمي هذه المدرسة حماسا ــ وهم ليسوا قِلة ــ أن يزعم بأي قدر من اليقين أنها قادرة على تحقيق مثل هذه النتائج المبهرة لو لم يكن بوسعها أن تختار طلابها.
الواقع أن أميركا اللاتينية خاضت مثل هذه التجربة ذات مرة بالفعل، حيث حاولت العديد من الكليات العامة تفنيد الاتهامات الموجهة إليها بأنها نخبوية بإلغاء اختبارات القبول ورسوم الدراسة في ستينيات القرن العشرين. وفي منطقة حيث كانت الشهادة الجامعية تمثل حتى ذلك الوقت جواز مرور إلى الحياة الطيبة، تضخم عدد الملتحقين على نحو متوقع.
ولكن في العديد من الأماكن، كانت التجربة قصيرة الأجل. فقد استأنفت مؤسسات مثل جامعة شيلي وجامعة ساو باولو في البرازيل عملية القبول العالية التنافسية. أما المؤسسات التي لم تفعل ذلك، مثل جامعة بوينس آيرس، فقد تضاءل دورها في تشكيل النخب الأكاديمية والتجارية والسياسية في بلدانها.
في الجملة الأخيرة يتعين علينا على أن نؤكد على كلمة "سياسية". ذلك أن الحجة الأكثر قوة للحفاظ على المدارس العامة النخبوية، مع سياسات القبول القائمة على الجدارة التي تنتهجها، هي سياسية في الأساس. وفي بلدان حيث سيطرت النخب الثرية التقليدية على السلطة لفترة طويلة، فإن النخبة البديلة المستمدة من الطبقات المتوسطة والمتعلمين في ظل قيم جمهورية لا تقدر بثمن من الناحية السياسية. وليس من قبيل المصادفة أن العديد من المصلحين الديمقراطيين في شيلي في القرنين الماضيين كانوا من خريجي المعهد الوطني.
في اختبار القبول للكلية الشيلية في العام الماضي، لم تكن المدرسة التي احتلت المركز الثاني، المؤسسة الكاثوليكية المكلفة التي كان أغلب طلابها من الطبقة العليا، هي الوحيدة التي كان أداؤها حسنا؛ بل كانت بقية أفضل عشر مدارس تندرج تحت نفس الوصف. وتدير منظمة أوبوس داي أغلب هذه المدارس، ولكن ليس كلها.
إن هيمنة مثل هذه المؤسسات المحافِظة النخبوية هي على وجه التحديد السبب الذي يضفي أهمية كبرى على المدارس مثل المعهد الوطني. ولكن بمجرد أن يدخل إصلاح باشيليت الأخير حيز النفاذ فإن خريجي هذه المدارس قد لا يصبح بوسعهم أن يحافظوا على ترتيبهم المتفوق. وعندما تعاني مدارس النخبة العامة هذه فإن الديمقراطية في شيلي سوف تعاني أيضا.
اضف تعليق