q

هارولد جيمس

 

برينستون ــ في الثقافة العالمية اليوم، حيث تعيننا نماذج بسيطة على فَهم قدر كبير من التعقيدات، تجسد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الروسي فلاديمير بوتن نمطين أصليين متعارضين للزعامة الوطنية. ومثلهما كمثل غيرهما من قبلهما، يبرز كل منهما صورة مغايرة تؤسس لاختيار واضح بين رؤيتين كونيتين بديلتين.

وكان هذا صحيحا بكل تأكيد في فترات سابقة من الضغوط السياسية والاقتصادية. على سبيل المثال، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، مع تفسخ العديد من الأنظمة الديمقراطية، تطلع كثيرون في العالَم إما إلى بنيتو موسيليني في إيطاليا أو فلاديمير لينين في روسيا لتحديد المستقبل.

في عشرينيات القرن الماضي، أقنع موسيليني العديد من المراقبين الأجانب بأنه ابتكر الطريقة المثلى لتنظيم المجتمع، الطريقة التي تغلبت على الفوضى وتدمير الذات المتأصل في الليبرالية التقليدية. في عهد موسيليني، كانت إيطاليا لا تزال مندمجة في الاقتصاد العالمي، وكانت تحكم دولتها مؤسسات كبرى رسمية، وكان تركيزها منصبا على تحقيق الانسجام المفترض في المصالح بين رأس المال والعمل، وبدت في نظر كثيرين وكأنها تبشر بمستقبل من دون صراع طبقي أو نضال سياسي.

في ألمانيا، كان أعضاء اليمين القومي الأرثوذكسي، فضلا عن كثيرين آخرين، معجبين بموسيليني، وخاصة أدولف هتلر الشاب، الذي طلب صورة موقعة من الدوتشي (كما أصبح موسيليني معروفا) بعد استيلائه على السلطة في عام 1922. والواقع أن هتلر استخدم ما يسمى مسيرة موسيليني إلى روما كنموذج لانقلاب بير هول في بافاريا في عام 1923، والذي كان يأمل في أن يكون منطلقا إلى الاستيلاء على السلطة في مختلف أنحاء ألمانيا.

لقد ألهمت أممية موسيليني الفاشية المقلدين في مختلف أنحاء العالم، من الاتحاد البريطاني للفاشيين بقيادة أوزوالد موسلي إلى الحرس الحديدي في رومانيا بقيادة كورنيليو زيليا كودريانو. وحتى في الصين، حاول الطلاب في أكاديمية وامبوا العسكرية إطلاق حركة "القمصان الزرقاء" الصينية على غرار قمصان موسيليني السوداء أو قمصان هتلر البنية.

خلال هذه الفترة، كان لينين الصورة المغايرة لموسيليني، أو نقطة الارتكاز لليسار الدولي. وفي مختلف أنحاء العالَم، كان اليساريون يعرفون أنفسهم بدرجة إعجابهم أو استهجانهم لقسوة الزعيم السوفييتي. ومثله كمثل موسيليني، زعم لينين أنه يبني ــ بأي وسيلة ضرورية ــ مجتمعا غير طبقي، حيث يصبح الصراع السياسي شيئا من الماضي.

يتصارع زعماء اليوم مع سياسات العولمة، وفي هذه المناقشة تمثل ميركل وبوتن ــ الأقل تشابها في تكتيكاتهما مما كانت عليه تكتيكات موسليني ولينين من تشابه ــ مسارين إلى الأمام: الانفتاح والموقف الدفاعي على التوالي. وفي أوروبا، يُعَرِّف الزعماء السياسيون أنفسهم بمدى متانة علاقاتهم بأي من الاثنين. والمجر وتركيا عُرضة للمكائد الجيوسياسية الروسية؛ ولكن يبدو أن قائدي البلدين، رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، انضما إلى الجمعية الدولية لمعجبي بوتن.

ومن ناحية أخرى، نجحت مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة في فرنسا، والتي من المرجح أن تكون مرشحة في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية في العامل المقبل، في ترسيخ نفسها كصورة مغايرة لميركل. ترى لوبان أن ميركل إمبراطورة تستخدم الاتحاد الأوروبي لفرض إرادتها على بقية أوروبا، وخاصة على الرئيس الفرنسي البائس فرانسوا هولاند. وعلى نحو مماثل، ترى في سياسة اللاجئين السخية التي تنتهجها ألمانيا بقيادة ميركل مجرد ذريعة لاستيراد "العبيد".

في المملكة المتحدة، يتخذ نايجل فاراج زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة السابق موقفا مماثلا. فهو يرى في ميركل تهديدا للسلام الأوروبي أعظم من ذلك التهديد الذي يفرضه بوتن.

من ناحية أخرى، تبدو رئيسة وزراء المملكة المتحدة تيريزا ماي وكأنها تنقل رسالة ميركل، على الأقل أسلوبها في التفاوض. فقد تجاهل خطابها السياسي الرئيسي الأول إلى حد كبير استفتاء يونيو/حزيران على الخروج من الاتحاد الأوروبي، والذي دفع بها إلى السلطة، ووعدت بممارسة الضغوط من أجل ما يسمى القرار المشترك ــ تمثيل العمال في مجالس إدارة الشركات ــ والذي يشكل جزءا مهما في العقد الاجتماعي في ألمانيا.

يمثل بوتن وميركل نقطتين ثابتتين على البوصلة، وليس فقط في أوروبا. ففي الولايات المتحدة، انتقد مؤخرا المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب ــ الذي امتدح بوتن لحصوله على درجة الامتياز (في القيادة) ــ منافسته هيلاري كلينتون بوصفها "ميركل أميركا"، ثم بدأ هاشتاج على تويتر يساوي بين ميركل وكلينتون. ومثله كمثل لوبان وحزب استقلال المملكة المتحدة، حاول ترامب وضع سياسة الهجرة التي تنتهجها ميركل في مركز المناقشة السياسية.

من بين التفسيرات الواضحة للانشطار بين ميركل وبوتن أنه يجسد التنميط الأصلي بين الجنسين: إذ تفضل ميركل الدبلوماسية "الأنثوية" والشمول، في حين يفضل بوتن المنافسة والمواجهة "الذكورية". ويتلخص تفسير آخر في أن بوتن يمثل الحنين إلى الماضي المثالي، في حين تجسد ميركل الأمل: الإيمان بأن العالم من الممكن أن يتحسن من خلال الإدارة السياسية الفعّالة.

ويتضح موقف بوتن في جهوده الرامية إلى توحيد أوراسيا حول مبادئ المحافظة الاجتماعية، والسلطوية السياسية، والعقيدة الأرثوذكسية كذراع اسمية للدولة. وهي نسخة محدثة بالكاد من الوصفة السياسية الثلاثية المحاور (العقيدة القويمة، والاستبداد، والقومية) التي طرحها المنَظِّر والمستشار القيصري كونستانتين بوبدونوستسيف في القرن التاسع عشر.

لقد برزت ميركل كصورة مغايرة لبوتن ورمز عالمي، بالمصادفة، خلال أزمة الديون في منطقة اليورو، عندما اعتُبِرَت مدافعة قومية عن المصالح الاقتصادية الألمانية، ومرة أخرى في صيف 2015 عندما قاومت الاعتراضات على سياسات الهجرة التي تنتهجها زاعمة أن ألمانيا "دولة قوية" وقادرة على "تدبر أمورها".

بطبيعة الحال، كانت ميركل "الجديدة" هذه هناك دائما. ففي عام 2009، وبخت علنا البابا السابق بنديكت السادس عشر لأنه لم يقدم "توضيحا وافيا" للقرار الذي اتخذه بإلغاء العزل الكنسي للأسقف الذي أنكر الهولوكوست، وفي عام 2007، أصرت ميركل على استقبال الدلاي لاما، على الرغم من الاعتراضات الصينية الرسمية.

لقد ظهرت ميركل وبوتن كرمزين سياسيين في وقت حيث وصلت العولمة إلى مفترق طرق. وفي حين يريد ترامب بديلا للعولمة، تريد ميركل إنقاذها بالاستعانة بالزعامة القوية، والإدارة القديرة، والالتزام بالقيم العالمية وحقوق الإنسان.

لقد ألهم رموز العالَم في عشرينيات القرن الماضي الدعوات إلى التغيير السياسي العنيف. واليوم، أصبحت هذه اللغة مستهجنة. ولكن الاختيار بين التكامل الشامل والتفكك الكلي يظل باقيا معنا.

* زميل بارز في مركز الحكم الدولي للابتكار وأستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون، وأستاذ التاريخ بمعهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، مؤلف كتاب "خلق وتدمير القيمة: دورة العولمة

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق