المعتقدات قد تغيِّر توجهات الناس، حتى لو كانوا لا يؤمنون بها، كلُّ ما عليك هو أن تفكِّر في تَبِعات ذلك. يبدو الرأي القائل بأن الإعلان يمكن أن يؤثر حتى من دون الحاجة إلى تصديقه رأيًا ساذجًا، ولكن إذا لم تكن فعالية رسالة الإعلان تتأثر بعدم تصديق الناس...
عقولنا تخضع باستمرار لمؤثِّرات نجهلها تمامًا
والتر ديل سكوت «سيكولوجيا الإعلان في النظرية والتطبيق» (١٩٠٣)
بقلم: روبرت هيث
كما رأينا سابقا، كان التأكيد على خرافة أن الإعلان ليس سوى تواصلٍ برسالةٍ مقنِعةٍ مطمحَ الكثيرين من العاملين في مجال الإعلان والتسويق. ولكن إلى جانب هذه الأغلبية كانت هناك قِلَّة قليلة من الروَّاد الذين يعتقدون خلاف ذلك، ومن بين هؤلاء الروَّاد والتر ديل سكوت، الرجل الذي يرجع إليه الفضل في وضع «أول دراسة أكاديمية جادة عن آلية الدعاية والإعلان» (فلدويك، ٢٠٠٩).
والتر ديل سكوت
المكان: نادي أجيت في شيكاجو، وهو نادٍ مرموق لرجال الأعمال. الزمان: عام ١٩٠١؛ حيث تمَّت دعوة والتر ديل سكوت، الأستاذ المساعد في علم النفس في جامعة نورث وسترن، ليُلقِي كلمة على مجموعة من رجال الأعمال البارزين من ذوي الصِّلة بصناعة الإعلانات الآخِذة في النمو. تضمَّنت كلمة سكوت بالتأكيد مقولته التي أوردناها في بداية هذا الفصل والتي نقلناها عن عمله المزمع صدوره وقتذاك: «سيكولوجية الإعلانات في النظرية والتطبيق» (سكوت، ١٩٠٣).
أشارت التقارير التي كُتبت عن هذا الاجتماع إلى أن رجال الأعمال كانوا سعداء بما قاله سكوت لهم، ولكنهم كانوا في مطلع القرن العشرين، وكان واضحًا أن صناعة الإعلان لا تزال في مهدها. وكان لا يزال هناك أحد عشر عامًا أخرى قبل أن يُهَيْمِن نموذج (الانتباه، الاهتمام، الرغبة، الاستجابة) على الفكر الإعلاني؛ لذلك ربَّما كان ممثلو هذه الصناعة الوليدة أكثر انفتاحًا ممن جاءوا بعدهم.
تمثَّل رأي سكوت في الإعلان في كونه أداة مبيعات تعتمد على الإغراء، وقد سجَّل مقتطفاتٍ من كلمته تلك لاحقًا في مقال نشرتْه مجلة «أتلانتيك»، ومنها هذا التوصيف:
قدَّر أحدهم ذات مرة أن خمسة وسبعين في المائة من مجمل الإعلانات لا تحقِّق المرجوَّ منها؛ ومع ذلك فإن نسبة الخمسة والعشرين في المائة المتبقية تحقِّق المرجوَّ منها على نحو جيد لدرجة تجعلك لا تَجِد رجل أعمال يَرضَى أن يَقِفَ متفرِّجًا ومنافسوه يروِّجون لأنفسهم بالإعلانات.(سكوت، ١٩٠٤)
لاحظ هنا أن الإعلان في ذلك الوقت لم يكن يعتبر أداةً للتسويق، فلم يَظهَر مصطلح «التسويق» إلا بعد ذلك بخمس سنوات، وعندما ظهر كان بمثابة أداة اقتصادية تهدف إلى مساعدة المزارعين في تحقيق الإنتاجية المطلوبة على نحو أكثر فعالية. ومن المؤكد أن هذا لم تكن له علاقة بأنشطة المبيعات ومنها الإعلان.
أما ما يميز سكوت عن الجميع فهو أنه فهم بوضوح أن الإعلان «يتلاعب» بعقول المستهلكين؛ حيث قال في محاضرته تلك:
أنتم - المُعلِنين - توجِّهون كل جهودكم إلى إحداث تأثيرات معينة على عقول العملاء المحتملين. وعلم النفس، بصفة عامة، هو علم العقل. والفن هو الفعل، أما العلم فهو فهم كيفية الفعل، أو شرح ما تمَّ فعلُه، فإذا كنَّا قادرين على التعبير عن القوانين السيكولوجية التي يستند فن الإعلان إليها، فعندئذٍ نكون قد حقَّقنا تقدُّمًا متميِّزًا؛ وهذا لأننا نكون قد أضفْنَا العلم إلى فن الإعلان. (سكوت، ١٩٠٤)
وفي المقال نفسه، توقَّع سكوت أن «يُعرف المُعلِن الناجح بأنه المُعلِن الخبير بعلم النفس.» وحدَّد على وجه الخصوص الكيفية التي يمكن بها للإعلان أن يؤثِّر على لاوعي المُتلقِّي من خلال ما وصفه ﺑ «الإيحاء». ويروي في كتابه قصة خياط شرع فيما سمَّاه حملة إعلانية «قوية» في شيكاجو. يقول: «لم أكن أتصوَّر أن يكون لإعلانه أي تأثير عليَّ أنا شخصيًّا»، ولكن «بعد بضعة أشهر من بدء الحملة الإعلانية وجدتُني أتوجَّه إلى محلِّ الخياط وأطلب تفصيل بدلة.» ودخل سكوت في حوار مع صاحب المحل، الذي سأله إذا كان صديقٌ له قد زكَّى له هذا المحل، فأجابه أن الأمر كذلك بالفعل. ولاحقًا، وجد أنه لا يتذكر أن أحدًا من أصدقائه قد أوصاه بالتعامل مع المحل، وأدرك أنه قد تأثر بالإعلان من دون وعي منه:
كنتُ قد رأيتُ الإعلانات (الخاصة بمحل الخياط) على مدى شهور، ومنها تشكَّلتْ لديَّ فكرة عن المحل. وفي وقت لاحق، نسيتُ مصدر معلوماتي وتصوَّرتُ أنها تزكية صديق. (سكوت، ١٩٠٣)
واللافت أن سكوت أشار قائلًا: «أشكُّ كثيرًا في أن أكون قد قرأتُ محتوى أيٍّ من الإعلانات سوى العنوان.» وهكذا نرى أن العنوان وحده كان كافيًا لدفعه للذهاب إلى المحل وابتياع بدلة.
وفي جزء آخَر من الكتاب، في فصل عنوانه «تأثير اللاوعي في إعلانات الترام»، يقدِّم لنا سكوت ما يمكننا وصفه بأنه أشهر ملاحظاته:
أكدتْ لي سيدة شابة أنها لم تُمعِن النظر أبدًا في أيٍّ من المُلصَقات الموجودة على عربات الترام التي اعتادتْ لسنوات أن تستقلَّها. وعندما ألْحَحتُ عليها في السؤال، وجدتُ أنها تَعرِف عن ظهر قلب كل الإعلانات التي تَظهَر عبر خط الترام … وأنها كانت تقدِّر كثيرًا نوعية البضائع والسلع التي يتم الإعلان عنها؛ فهي لا تدرك حقيقة أنها كانت تتأمل الإعلانات، واستاءت تمامًا من تعريفي لها بأنها قد تأثَّرتْ بها. (سكوت، ١٩٠٣)
تكمن أهمية هذا الاقتباس في كونه يُبيِّن -وعن قَصْدٍ فيما يُفترض- أن الإعلان قادر على التأثير على العديد من الناس من دون أن يَفطَنوا إلى أنه يفعل بهم ذلك. ربما لم يكن في هذا الرأي الكثير من الغرابة في عام ١٩٠٣؛ فقد كان الإعلان وقتذاك مقتصرًا على الصحف ولوحات الإعلانات والملصقات الإعلانية في عربات الترام، وأنا متأكد من أنها كانت تَحظَى باهتمامٍ محدودٍ كما هو الحال اليوم مع الإعلانات المطبوعة.
وبالرغم ممَّا حَظِيَ به سكوت في نادي أجيت من تحمُّس كبير لأفكاره، فإن صناعة الإعلانات في عمومها تجاهلت أفكاره المذهلة عن التأثيرات اللاشعورية للإعلانات. وعوضًا عن ذلك، ناصروا وجهة نظر جون كينيدي القائلة بأن الإعلان عبارة عن «فن البيع المطبوع» (جونتر، ١٩٦٠). وبعد مرور سنوات قليلة، وتحديدًا في عام ١٩١٠، تبنَّتِ الصناعة نموذج (الانتباه، الاهتمام، الرغبة، الاستجابة) مع الاستعاضة عن كلمة «الرغبة» بكلمة «الاقتناع» (برينترز إنك، ١٩١٠).
كان التناقض كبيرًا بين ملاحظات سكوت حول تأثيرٍ ممكنٍ للإعلانات على اللاوعي والتصنيف الصارم الذي يتضمنه نموذج (الانتباه، الاهتمام، الاقتناع، الاستجابة) لمراحل الإعلان واعتباره قائمًا على الانتباه والإقناع. ولكن صناعة الإعلان في عام ١٩١٠ كانت تُدار في الأساس من قِبَل مديري مبيعات سابقين كانوا يعتبرون بوضوحٍ غفلةَ العملاء عنهم مرادفًا للفشل. تتضح لنا عصبية هذه الصناعة تجاه وجهة النظر الجديدة من كتابات كلود هوبكينز، رئيس شركة لورد آند توماس، الوكالة الإعلانية الأكثر نجاحًا في العالم آنذاك؛ فقد قام هوبكينز، في محاولة منه لمحاكاة نجاح كتاب فريدريك تايلور «الإدارة العلمية»، وهو الكتاب الأكثر مبيعًا في عام ١٩١٧، بنشر كتاب بعنوان «الإعلان العلمي» في عام ١٩٢٣. كان هوبكينز يؤمن بأن «الإعلان هو فن البيع، وكتابته بأسلوب بليغ تمثِّل عيبًا فيه؛ فلا أحد يقرأ الإعلانات على أنها نصٌّ أدبي ممتِع. عليك أن تعتبر قُرَّاء الإعلان عملاء يقفون أمامك، ويسعَوْن للحصول على معلومات. عليك أن تمنحهم ما يكفي من المعلومات حتى تتم معهم صفقة البيع» (هوبكينز، ١٩٢٣). وبعبارة أخرى، عندما تكون بصدد كتابة أحد الإعلانات فعليك أن تتقمَّص شخصية البائع المتجوِّل.
هكذا طُويتْ صفحة أفكار سكوت، وصارتِ الغلبة لفكرة «الانتباه» طوال ستين عامًا، بل وزادت أهميةً مع ظهور الإعلانات التليفزيونية التجارية (باري وهاورد، ١٩٩٠). وبطبيعة الحال، ما إنْ أضْحَى الإعلان ظاهرةً وطنيةً في الولايات المتحدة حتى صار الأمر مسألة وقت قبل أن تَظهَر الثغرات في ذلك التفسير الأنيق الذي رسَّخه رجال المبيعات لآلية عمل الدعاية.
ظهرت أولى تلك الثغرات في عام ١٩٦٢، وذلك في مقال نشرتْه مجلة «جورنال أوف أدفرتيزنج». حيث ظهرتِ افتتاحية العدد لتُعلِن أن «[جون] مالوني يقدِّم أدلَّة مُدهِشة ضدَّ وجهة النظر التقليدية التي تقول بأن الإعلان لا بد أن يَحظَى بالتصديق قبل أن يتسنَّى له التأثير على مواقف أو سلوك المتلقِّي» (مالوني، ١٩٦٢). كان هذا في الواقع هو ما توصَّل إليه مالوني، الباحث في مؤسسة ليو بورنيت، وعزَّزه بالأدلة.
ويجدر بي هنا أن أوضِّح الفارق بين التوجهات والمعتقدات. تنشأ المعتقدات من معلوماتٍ قِيلت لنا عن المنتجات والخدمات، ومنها تنشأ الصفات التي نعزوها لتلك المنتجات والخدمات. وهكذا، فإنه قد ينشأ لدينا اعتقاد مثلًا عن طريق الإعلان بأن سيارة فيراري الرياضية يمكن أن تنطلق بسرعة ١٦٣ ميلًا في الساعة، أو أن مسحوق الغسيل «بولد» يغسل أكثر بياضًا من غيره.
تكمن الإشكالية هنا في أننا لا نشتري بدافع تلك المعتقدات؛ لأن المعتقدات لا تلبِّي احتياجاتنا، فنحن لا نشتري سيارة فيراري لأن سرعتها ١٦٣ ميلًا في الساعة، بل نشتريها لأننا بحاجة إلى سيارة مُثِيرة تكون مثار إعجاب الفتيات أو الجيران. ونحن لا نشتري المسحوق بولد لأنه يغسل أكثر بياضًا؛ بل نشتريه لأننا بحاجة إلى أن تَظهَر ملابسنا نظيفة، وتلك الأفكار الشخصية ذات الصلة بالرغبات والحاجات هي ما نسميه بالتوجهات. المهم هنا أن نعرف أن الإعلان لا يؤثر علينا عن طريق تغيير المعتقدات، بل يكمن تأثيره في قدرته على تغيير توجهاتنا.
فما قصده مالوني هو أن المعتقدات قد تغيِّر توجهات الناس، حتى لو كانوا لا يؤمنون بها، كلُّ ما عليك هو أن تفكِّر في تَبِعات ذلك. يبدو الرأي القائل بأن الإعلان يمكن أن يؤثر حتى من دون الحاجة إلى تصديقه رأيًا ساذجًا، ولكن إذا لم تكن فعالية رسالة الإعلان تتأثر بعدم تصديق الناس لها، فإن هذا يعني أن عنصر «الاقتناع» في نموذج (الانتباه، الاهتمام، الاقتناع، الاستجابة) لا معنى له، أليس كذلك؟ ومِن ثَمَّ فإن انتفاء «الاقتناع» يعني انتفاء النموذج وعدم صحته، وهذا يعني أيضًا أن الإعلان يمثل شيئًا أكبر من مجرد كونه «فنًّا من فنون البيع».
بعد عامين من مقال مالوني، قدَّم جاك هاسكينز أدلةً أكثر إثارة للجدل على قصور فكرة أن الإعلان فن من فنون البيع؛ حيث اكتشف هاسكينز، مدير الأبحاث في شركة فورد، أن الرسائل «الواقعية – العقلانية – المنطقية» كانت «أقلَّ» فعالية في تغيير التوجهات مقارنةً بالرسائل العاطفية أو غير الواقعية. كما وجد أيضًا أن «مقاييس التذكر وانطباع الإعلان في الذهن تبدو، في أحسن الأحوال، غير ذات صلة في تغيير التوجه والسلوك» (هاسكينز، ١٩٦٤). وبعبارة أخرى، فإن الرسائل العقلانية لا تكون من تلقاء نفسها على قدْر كبير من التأثير، ولا أهمية لتذكر تلك الرسالة الإعلانية من الأساس. هذا يشبه إلى حد كبير القول: «لا أهمية لما يقوله البائع، المهم هو مظهره.» وهذا، كما سنرى، أقرب كثيرًا إلى الحقيقة من أي رأي آخر في تلك الأيام.
إلا أن مالوني وهاسكينز لم يحقِّقا نجاحًا في تحدي النموذج الذي يؤمن بإثارة الانتباه، ولكن ما هي إلا ٣ أعوام حتى بدأت موجة هجوم أكثر جدية، وكانت هذه المرة من هربرت كروجمان، وهو عالم نفس آخر.
اضف تعليق