ما تزال المؤشرات الاقتصادية الرئيسية مرعبة. فعلى مدى السنوات العشر الماضية، أدى عدم الاستقرار السياسي وارتفاع معدلات الإنفاق على حساب الاستثمار إلى تباطؤ النمو الاقتصادي. وحديثاً، تعرضت البلاد إلى سلسلة من الصدمات الناجمة عن جائحة كوفيد والحرب الروسية الشاملة في أوكرانيا التي ضاعفت القيود على النمو ورفعت معدلات التضخم...
إضافة إلى التراجع عن الديمقراطية، تواجه تونس أزمة اقتصادية طاحنة، تفاقمها ديون خارجية تجد صعوبة بالغة في سدادها. ولذلك، ينبغي على الجهات الفاعلة الخارجية أن تستمر في الضغط على الحكومة بشأن حقوق الإنسان، وأن تستمر في الوقت نفسه في البحث عن سبل لتفادي حدوث السيناريوهات الأسوأ. ويُعد السبيل الرئيسي لتجنب وقوع ذلك الحصول على قرض بشروط معدَّلة من صندوق النقد الدولي.
ما الجديد؟ لقد انتقلت تونس في عهد الرئيس قيس سعيِّد من مرحلة الإصلاح التي دشنتها انتفاضة عام 2011 إلى نموذج يتسم على نحو متزايد بالشعبوية والاستبداد في الحكم. يمكن لتمويل يقدمه صندوق النقد الدولي، إضافة إلى إصلاحات في الحوكمة والاقتصاد، أن توفر مخرجاً من الأزمة، لكن تونس تقاوم.
ما أهمية ذلك؟ إذا لم تتوصل تونس إلى اتفاقية قرض جديدة مع صندوق النقد الدولي، فإن احتمال التخلف عن سداد ديونها الخارجية في عام 2024 أو 2025 سيكون كبيراً. بالمقابل، فإن التخلف عن السداد من شأنه أن يفاقم مخاطر العنف ويعرض الاستقرار الداخلي الهش أصلاً للخطر.
ما الذي ينبغي فعله؟ ينبغي على صندوق النقد الدولي أن يقدم لتونس التمويل بشروط أقل شدة للحد من مخاطر الاضطرابات الاجتماعية. وفي الوقت الذي يشجع فيه شركاء تونس الأجانب صندوق النقد الدولي على تبني هذا النهج، عليهم أن يُبقوا على الحوكمة وحقوق الإنسان على جدول الأعمال. وينبغي على المانحين أن يكونوا مستعدين لتقديم مساعدة طارئة في حال التخلف عن السداد.
منذ تموز/يوليو 2021، عندما أحكم الرئيس قيس سعيِّد قبضته على السلطة، شهدت تونس تحولاً نحو الحكم الاستبدادي في خضم أزمة اقتصادية متنامية. لقد أرفق سعيِّد جهوده لبناء نظام استبدادي بخطاب قومي متشدد أدى إلى حدوث هجمات على مهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء. لقد دفعته مقاومته للنفوذ الغربي إلى رفض شروط قرض مقترح من صندوق النقد الدولي من شأنه تحقيق الاستقرار لاقتصاد البلاد المتداعي من خلال تحقيق التوازن في الميزانية واستعادة ثقة المستثمرين. من دون القرض، قد تتخلف الدولة عن سداد ديونها الخارجية في عام 2024 أو 2025. ومن أجل تفادي الكارثة الاجتماعية والاقتصادية التي يمكن أن تنشأ عن ذلك، يتعين على الحكومة وصندوق النقد الدولي أن يعملا على التوصل إلى اتفاقية معدلة يمكن أن تخفف المتطلبات المفروضة على خفض الإنفاق والإصلاحات الاقتصادية الأخرى، لتجنب إحداث صدمة لمنظومة العمل في البلاد.
وينبغي على شركاء تونس الخارجيين أن يدعموا مثل تلك الاتفاقية بفعالية، وفي الوقت نفسه أن يحثوا سعيِّد على حماية المهاجرين الأفارقة وغيرهم من عنف المجموعات التي تفوض نفسها بإنفاذ القانون وضمان بقاء حقوق الإنسان على جدول الأعمال. وفي حال التخلف عن سداد الديون، ينبغي أن يكونوا مستعدين لتقديم مساعدة طارئة.
لقد تغير المناخ السياسي في تونس تغيراً جذرياً منذ تموز/يوليو 2021. في ذلك الشهر، فعَّل سعيِّد المادة 80 من الدستور لإعلان حالة الطوارئ وقيام ما يعد على نطاق واسع انقلاباً شخصياً، مستبدلاً النظام شبه البرلماني في البلاد بنظام رئاسي يفوض فيه جميع صلاحيات الحكومة تقريباً لنفسه. بترويجه لبرنامج مستلهم من أيديولوجيا قومية ويسارية، يلعب الرئيس على مشاعر الاستياء، ولا سيما من الطبقة السياسية السابقة والدول الغربية، لتعزيز شعبيته. لقد أوجد خطابه القومي مناخاً يفضي إلى العنف الإجرامي ضد المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء.
المعارضة التونسية، التي يخنقها القمع، منقسمة وغير منظمة ومشتتة الانتباه، في حين تنشغل شرائح واسعة من السكان بالمحافظة على بقائها في وجه ظروف اجتماعية واقتصادية متردية. وفي أوساط التونسيين العاديين، عاد الخوف من القمع الذي اختفى في أعقاب الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي في انتفاضة عام 2011 إلى الظهور. على مدى عام 2023، تسارعت عمليات اعتقال وإدانة شخصيات عامة، ولا سيما السياسيين. سُجن أكثر من خمسين من أولئك السياسيين بتهم متفاوتة أو باتوا في المنفى يواجهون أوامر اعتقال دولية. إضافة إلى ذلك، منذ بدأت الحرب في قطاع غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر، بات جزء كبير من السكان، إضافة إلى الطبقة السياسية، أكثر تركيزاً على التعبير عن التضامن مع الفلسطينيين من تركيزهم على التوترات الداخلية.
ما تزال المؤشرات الاقتصادية الرئيسية مرعبة. فعلى مدى السنوات العشر الماضية، أدى عدم الاستقرار السياسي وارتفاع معدلات الإنفاق على حساب الاستثمار إلى تباطؤ النمو الاقتصادي. وحديثاً، تعرضت البلاد إلى سلسلة من الصدمات الناجمة عن جائحة كوفيد-19 والحرب الروسية الشاملة في أوكرانيا التي ضاعفت القيود على النمو ورفعت معدلات التضخم. كما ارتفعت معدلات الديون الخارجية، حتى اقتربت من 90 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022. دفع عبء الديون الوكالات الدولية إلى تخفيض التصنيف الائتماني لتونس، الأمر الذي جعل من شبه المستحيل على البلاد الحصول على قروض من الخارج.
شركاء تونس الدوليون منقسمون، بما في ذلك داخلياً، على الموقف الذي ينبغي أن يتخذوه لمواجهة هذه التطورات، التي يعتقدون أنها تدفع البلاد في الاتجاه الخطأ. في الولايات المتحدة، يدين أعضاء الكونغرس على نحو منتظم تحول تونس نحو الحكم الاستبدادي وانتهاكات حقوق الإنسان، لكن السلطة التنفيذية عززت شراكتها الأمنية مع تونس، التي أثبتت صمودها.
ويبقى الاتحاد الأوروبي، بقيادة إيطاليا، صامتاً إلى حد كبير حيال تحول الرئيس نحو الاستبداد، نظراً لحرصه على تقليص مخاطر زيادة الهجرة التي يفضي إليها الانهيار الاقتصادي الداخلي. لقد عبر الاتحاد الأفريقي عن غضبه الشديد حيال الهجمات على المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء، لكن الجزائر وسورية تقيمان علاقات ودية على نحو متزايد مع القادة التونسيين، الذين تشعران بالقرابة الأيديولوجية معهم.
من أجل مواجهة الركود الاقتصادي، شجع شركاء تونس الخارجيين سعيِّد على قبول اتفاقية مع صندوق النقد الدولي – وُضعت بنودها في اتفاقية تم التوصل إليها على مستوى الموظفين في تشرين الأول/أكتوبر 2022 – من شأنها أن تساعد البلاد على سداد ديونها في مواعيدها المحددة. لكن سعيِّد وأنصاره يرفضون الإصلاحات الاقتصادية المرتبطة بالقرض، خشية أن ترفع معدلات الفقر وتحدث اضطرابات اجتماعية. بينما يبدو صندوق النقد الدولي منفتحاً على ترتيبات أكثر مرونة، فإن حتى مثل هذه التسوية قد تكون أكثر مما يستطيع سعيِّد قبوله. رغم أنه أبقى قنوات الاتصال مع صندوق النقد الدولي مفتوحة، فإن سعيِّد (الذي يصور النُخب التونسية على أنها متواطئة مع المانحين الغربيين على حساب الشعب التونسي) يفضل التخلي عن الاتفاقية وتجريب حظه مع التخلف عن سداد الديون الخارجية.
سيكون ذلك خطأ؛ فرغم أن أنصار سعيِّد وبعض الاقتصاديين يقولون إن تونس قد تتمكن من إيجاد مصادر أخرى للعملات الأجنبية (مثلاً، من خلال العائدات التي تولدها الحوالات الخارجية، والمساعدات التي تقدمها حكومات صديقة مثل الجزائر أو مبيعات الفوسفات والنفط)، فإن هذه السيناريوهات حافلة بانعدام اليقين. أما الحجج القائلة بأن تونس قد تكون قادرة على تحمل تداعيات التخلف عن سداد الديون – على سبيل المثال باللجوء إلى الاحتياطيات الأجنبية بينما تقوم بجدولة ديونها على نحو رشيق – فهي واهية أيضاً. إنها تنزع إلى تجاهل الطرق التي يمكن لعوامل المخاطرة الكبيرة في البلاد أن تحدث تداعيات متسارعة.
وتشمل هذه العوامل العبء الهائل للدين الداخلي، الذي قد يكون من الصعب دفع فوائده إذا واجهت البلاد أزمة ائتمانية نتيجة التخلف عن سداد الديون، واحتمال ارتفاع معدلات التضخم على نحو كبير إذا طبعت الحكومة النقود إما لتدفع لدائنيها الداخليين أو لتوفير جدول رواتب القطاع العام. يمكن للصعوبات الاقتصادية أن تدفع المواطنين إلى الخروج إلى الشوارع، وأن تحدث تنافساً عنيفاً على الموارد الشحيحة وحتى أن تدفع ضباط الجيش المدربين في الغرب إلى تحدي الحكومة.
في ظل هذه الظروف، ينبغي أن تكون الأولوية بالنسبة للمانحين وصندوق النقد الدولي إقناع فريق سعيِّد بالعودة إلى طاولة المفاوضات، حيث ينبغي أن يقدموا لتونس اتفاقية معدلة بشروط أقل صرامة – سواء للمساعدة في إدارة احتمال حدوث اضطرابات اجتماعية أو لمساعدة سعيِّد على إيجاد طريقة للعودة إلى قبول القرض. في حين أن الاحتمالات ليست كبيرة، فإن هذا النهج يمكن أن ينجح، ويستحق المتابعة.
بموازاة ذلك، ينبغي على المانحين العمل على تعزيز برامج الانخراط المنسق مع تونس في صيغة مجموعة السبع بلَس (G7+) والتي يمكن توسيعها لتغطية جملة أوسع من المواضيع – وأيضاً العمل على نحو أكثر تظافراً من أجل تنسيق السياسات مع الهيئات الإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي بحيث تواجه تونس جبهة موحدة من اللاعبين الخارجيين.
كما ينبغي على المانحين الغربيين أن يعملوا أيضاً على إبقاء إصلاح الحوكمة وحقوق الإنسان، بما في ذلك بالنسبة للمهاجرين من جنوب الصحراء، على الأجندة الدبلوماسية، وصياغة توصياتهم على شكل وسائل للمساعدة في منع تراكم المظالم بين أفراد الشعب. وسواء اقتنعت تونس بهذا المنطق أم لم تقتنع، فإن هذا الإطار من غير المرجح أن يولد مقاومة مثل استحضار القيم والمبادئ، الذي من المرجح أن تنظر إليه على أنه محاولة لفرض أعراف غربية والحط من قدر سيادتها. أخيراً، سيتعين على المانحين أيضاً تحضير حزم دعم طارئ لتوفير ضروريات الحياة للتونسيين إذا أدى المسار الراهن إلى التخلف عن السداد والصدمات التي يمكن أن تتبعه لاحقاً.
إن إقناع تونس بقبول الترتيبات التي تسمح لها بتجنب التخلف عن سداد الديون، في ظل تشجيعها على سلوك أكثر احتراماً للحقوق، سيتطلب مرونة ودبلوماسية لبقة من قبل المانحين والشركاء. حتى عندها، قد يكون النجاح بعيد المنال. ولكن طالما ظلت فرص التوصل إلى اتفاقية مع صندوق النقد الدولي مفتوحة، ينبغي على الجهات الفاعلة الخارجية أن تستمر في بذل كل ما في وسعها للاستفادة منها إلى الحد الأقصى، حتى مع استعدادها لأسوأ السيناريوهات التي تبدو للأسف مرجحة جداً.
اضف تعليق