الجامعات الأميركية كانت ولا تزال إلى جانب الشركات الكبرى والإعلام والسينما والمخابرات أدوات تنفيذ استراتيجية الهيمنة الأميركية. أدرك الصهاينة هذا الأمر منذ زمن طويل، فعمل اللوبي الصهيوني في واشنطن على فرض نفوذه داخل الجامعات الأميركية والأوساط الأكاديمية. لم تكن العملية صعبة، انسحب الوجود اليهودي الكثيف في أوساط المال والفكر والإعلام...
بقلم: بثينة عليق
هل تساهم عملية طوفان الأقصى بخلق دينامية تسمح لطلاب الجامعات وأساتذتها بأن يكونوا النخبة التي تواجه تحدياً لتنظيم العالم حول القيم الإنسانية وليس الأميركية المتوحّشة؟
لم تكن مصادفة، أن يختار الجنرال جورج مارشال، الذي كان رئيس أركان الجيش الأميركي أثناء الحرب العالمية الثانية والذي أصبح وزير خارجية ترومان، جامعة هارفارد وليس أي منبر حكوميّ رسميّ ليطلق منها في العام 1947 "مشروع مارشال" لإعادة إعمار أوروبا المدمّرة.
الحدث الذي اعتبر مفصلياً وفارقاً في مصير أوروبا بعد الحرب لم يكن يحتمل أيّ ارتجال. اختار مارشال الحديث أمام الطلاب الجامعيّين الذين تعتبرهم الولايات المتحدة الأميركية بحسب ما أوردته الكاتبة فرانسيس سوندرز في كتابها "الحرب الباردة الثقافية": "الرجال المنوط بهم تحقيق قدر أميركا الجلي، والنخبة التي تواجه تحديّاً لتنظيم العالم حول القيم الأميركية".
جامعة أخرى شكّلت بدورها منصة لمشروع لا يقلّ خطورة، جامعة شيكاغو، وتحديداً كليّة الاقتصاد فيها، التي تبنّت مشروعاً عرف بـ "المشروع التشيلي". هدف المشروع وفق ما أشارت إليه نعومي كلاين في كتابها "عقيدة الصدمة" هو "إنتاج محاربين أيديولوجيين من شأنهم أن يربحوا المعركة الفكرية ضدّ الاقتصاديّين الاشتراكيّين". وأردفت كلاين "أنّ المشروع أطلق في العام 1956، وفي عقد واحد أصبحت جامعة شيكاغو المقصد الأوّل للأميركيين اللاتينيّين". تذهب الكاتبة الكندية إلى حد اعتبار أنّ المشروع نجح في "أن يغيّر مسار التاريخ في أميركا اللاتينية". وهذا ما يفسّر الاهتمام الكبير الذي حظي به المشروعان، مارشال والتشيلي، من قبل وكالة الاستخبارات المركزية CIA.
وبناء عليه فإنّ الجامعات الأميركية كانت ولا تزال إلى جانب الشركات الكبرى والإعلام والسينما والمخابرات أدوات تنفيذ استراتيجية الهيمنة الأميركية.
أدرك الصهاينة هذا الأمر منذ زمن طويل، فعمل اللوبي الصهيوني في واشنطن على فرض نفوذه داخل الجامعات الأميركية والأوساط الأكاديمية. لم تكن العملية صعبة، انسحب الوجود اليهودي الكثيف في أوساط المال والفكر والإعلام على الجامعات، ولا سيما أنّ العلاقة بين الجهات المموّلة والجامعات في الولايات المتحدة الأميركية هي علاقة خضوع. من هنا يبدو ما يحصل في الجامعات الأميركية اليوم بالتوازي مع الحرب الإسرائيلية على غزة بعد عملية طوفان الأقصى حلقة ضمن مسار طويل.
بسهولة نسبية نجح الأخطبوط الصهيوني في واشنطن بجعل "إسرائيل" وسياساتها وممارساتها الوحشية والظالمة وجرائمها التي تضطلع فيها واشنطن بمسؤولية مباشرة من ضمن القضايا المسكوت عنها. وقد عبّرت روائية أميركية تدعى جوان ديديون عن الأمر في مقالة لها في صحيفة النيويورك تايمز بالقول "إنه لا يمكننا أن نطرح على بساط البحث أيّ أمر قد يسيء إلى علاقاتنا مع حكومة إسرائيل".
شكّل عهد ريغان وصعود المحافظين الجدد وقيام التحالف بين "إسرائيل" واليمين الديني خلاله محطة مهمة في هذا المسار. قبل ذلك وضع كيسنجر ما أسماه الكاتب الأميركي غولدبيرغ في كتابه "القوة اليهودية" بـ "القاعدة الخرسانية" للتحالف الأميركي الإسرائيلي.
هذه البيئة الصديقة لـ "إسرائيل شكّلت عاملاً داعماً ومساعداً لحركة مؤيّدي "إسرائيل" داخل الجامعات الأميركية، لقد مارس هؤلاء "الهاسبارا" بطريقة منظّمة، تمّ إعداد كتيّبات خاصة للجامعات من أجل الترويج والدعاية لـ "إسرائيل". تتضمّن الكتيّبات مجموعة من التوجيهات والتكتيكات التي يفترض اعتمادها داخل الجامعات للمواجهة السريعة لأيّ أجواء منتقدة أو معترضة على سلوك "إسرائيل". يقول الكاتبان ساري مقدسي وغولدبرغ في مقالة لهما بعنوان "هل تجرؤ ألّا تكون إسرائيلياً؟" إن كتاب هاسبارا الخاص بالجامعات "نجح بالتلاعب بالجمهور من أجل عدم فحص الحجج وعدم التفكير بشكل نقدي حول ما يقال عن إسرائيل".
يتحدّث الكاتبان عن حالة الإرهاب الفكري التي يتعرّض لها أساتذة وطلاب الجامعات الأميركية لمنع أي محاولة لانتقاد "إسرائيل"، ويشيران إلى الحملات التي تشنّ ضدّ منتقدي "إسرائيل" لإسكاتهم عن طريق "جعل الحياة صعبة بالنسبة إليهم أو التهديد بسحب الدعم للجامعات التي ينتمون إليها، إضافة إلى تهديد حياتهم الوظيفية أو حرمانهم من الحصول على وظائف".
الأمثلة كثيرة في هذا المجال إلّا أنّ ما حصل مع المؤرّخ الأميركي اليهودي نورمان فنكلشتاين في جامعة دي بول يبقى الأبرز. تعرّض الرجل لضغوط في عمله الجامعي بسبب آرائه المعترضة على السياسة الإسرائيلية ومنع من التدريس في الجامعة، ولم ينفع تحالف عدد من الطلبة معه وصولاً إلى إعلانهم الإضراب عن الطعام. وقد حسم الأمر بتصويت أغلبية أعضاء إدارة الجامعة على الاستغناء عن خدماته.
ما يحصل اليوم مع عدد من رؤساء الجامعات الأميركية نسخة جديدة ومنقّحة.
أظهر فيديو تمّ تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي صعوبة أن يجرؤ الأكاديميون في الجامعات الأميركية على ألّا يكونوا صهاينة. الطريقة التي اعتمدتها عضو الكونغرس الأميركية خلال جلسة استماع لعدد من رؤساء الجامعات الأميركية خصصت لقضية معاداة السامية داخل حرم الجامعات، كانت فجّة ووقحة ومهينة ولا تتناسب مع شخصيات أكاديمية ومرموقة. وعندما لم تُرضِ الأجوبة السائلين انطلقت حملة ترهيب على المستجوَبِين وهدّد المموّلون اليهود بسحب تبرّعاتهم للجامعات، وارتفعت الأصوات الداعية لاستقالتهم وبالفعل استقال بعضهم.
الحادثة أعادت إلى الذاكرة الحملة التي شنّها عضوّ الكونغرس جوزيف مكارثي في خمسينيات القرن الماضي والتي شبّهت بمحاكم التفتيش بدعوى التصدّي "للنشاط الخارج من ولائه لأميركا". في هذه الحملة راح ماكارثي يستدعي أمام لجنته ويحاسب ويعاقب كلّ من تصوّر أنهم جنحوا إلى اليسار في أفكارهم، وقد شملت هذه الحملة الفنانين والأدباء وأبرز نجوم المسرح والسينما، وبطبيعة الحال أكفأ أساتذة الجامعات الذين تساقطوا تحت مطارق الاتهامات التي يوجّهها إليهم السناتور ماكارثي ولجنته.
عرفت الولايات المتحدة تجارب مماثلة وصلت إلى ذروة جديدة في ظلّ حكم المحافظين الجدد عندما شهدت واشنطن ما أسماه المفكّر أدوارد سعيد "التواطؤ المخزي والفضائحي" بين وسائل الإعلام والمستويات السياسية والعسكرية لتبرير الاندفاع الأميركي إلى الحرب على العراق.
في كلّ هذه التجارب تبيّن أنّ لوبيات تتحكّم بمفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية والأكاديمية في الولايات المتحدة الأميركية. اللوبي الصهيوني النافذ إلى قلب العملية السياسية لا يمكن فصله عن مراكز القوى التي تحدّث عنها الرئيس أيزناهاور في خطابه الشهير في العام 1961 عندما حذّر من خطر المجمع الصناعي العسكري، وأشار إلى مؤسّسات تتمتّع بنفوذ "لم يصوّت عليه أحد، وسلطة لا تخضع لحساب".
اللافت أنه على الرغم من السطوة الكبيرة لهذه القوى لم تنجح عملية تطويع الجامعات الأميركية بشكل تامّ. فقد شكّلت الأخيرة مسرحاً لحالات تمرّد من قبل طلاب وأساتذة شكّكوا بشكل كبير بالسياسة الأميركية، وشهدت الجامعات احتجاجات كثيرة في ظروف كبرى مثل حرب فيتنام، والتمييز العنصري في جنوب أفريقيا، والحقوق المدنية في الولايات المتحدة نفسها، وحرب العراق، واليوم حرب "إسرائيل" على غزة. هؤلاء المتمرّدون يسمّيهم إدوارد سعيد "جماعات الوعي".
فهل ينجحون في مواجهة حاملي أفكار التعصّب لأيديولوجيا الهيمنة الأميركية ولأمن "إسرائيل" والذين نجحوا بإقامة نوع من المعادلة بين انتقاد "إسرائيل" والعداء للسامية؟
وهل تساهم عملية طوفان الأقصى بخلق دينامية تسمح لطلاب الجامعات وأساتذتها بأن يكونوا النخبة التي تواجه تحدياً لتنظيم العالم حول القيم الإنسانية وليس الأميركية المتوحّشة؟
اضف تعليق