تهديدات الصين بممارسة الإكراه الاقتصادي تميل إلى المبالغة وعادة ما يمكن التحكم فيها، إلى أن أوروبا والولايات المتحدة ودول غربية أخرى لا تزال تقيم حواجز تجارية مُكلفة في محاولة للتخفيف من هذه المخاطر المُتوقعة. وحتى أولئك الذين يعترفون بالفعالية المحدودة للإكراه الاقتصادي الصيني كثيراً ما يُجادلون بأن أوروبا...
بقلم: دانييل جروس
ميلانو ــ مع تصاعد الحرب بين إسرائيل وحماس، تحول الاهتمام العالمي إلى حد كبير من أوكرانيا إلى غزة. وعلى الرغم من أن هذا أمر مفهوم، فمن الخطأ التغاضي عن الوضع في أوكرانيا. ومع اقتراب الحرب العدوانية التي يشنها فلاديمير بوتن من ذكراها السنوية الثانية، فمن الأهمية بمكان أن نفهم السبب وراء التأثير المحدود للعقوبات الغربية غير المسبوقة المفروضة على روسيا.
وعلى عكس توقعات بعض الخبراء والمُحللين، لم ينهار الاقتصاد الروسي نتيجة للعقوبات الغربية، بل يُواصل النمو وإن كان بوتيرة بطيئة. ومن بين الأسباب الواضحة وراء ذلك أن الطلب على الصادرات الروسية ــ وخاصة النفط والغاز ــ يظل قوياً، وهذه المنتجات قابلة للاستبدال. وإذا ما لجأت أوروبا إلى خفض مشترياتها من النفط والغاز الروسي، يمكن أن تجد روسيا مشترين آخرين على أتم الاستعداد، مثل الهند والصين. تتمثل التكلفة الأكبر التي تتحملها روسيا نتيجة لهذا التحول في الشركاء التجاريين في النقل، على الرغم من أن هذه الزيادة لا تتجاوز بضع نقاط مئوية بالنسبة للنفط وغيره من السلع الأساسية، مثل الفحم، والذهب، والنحاس، ومختلف المواد الخام.
يتلخص الاستثناء الملحوظ في الغاز الطبيعي الذي يصعب نقله. قبل غزوها لأوكرانيا، كانت روسيا أكبر مزود للطاقة لأوروبا، حيث وفرت أكثر من 40% من احتياجات الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي. وفي صيف عام 2022، حاولت روسيا "فرض عقوبات" على أوروبا من خلال تقليص إمداداتها من الغاز ووقفها في نهاية المطاف. وقد أدت هذه الخطوة إلى ارتفاع قصير الأجل في أسعار الغاز العالمية، الأمر الذي أجبر المشترين الأوروبيين على طلب كميات أكبر من الغاز الطبيعي المُسال من موردين آخرين، وأثار مخاوف من أن يؤدي نقص الطاقة إلى خنق النمو الاقتصادي، وخاصة في ألمانيا.
مع ذلك، كان التأثير على الاقتصادات الأوروبية، وخاصة ألمانيا، أقل حدة مما كان متوقعًا. وخلافًا لبعض التوقعات، لم يحدث أي ركود. وفي حين تمكنت الشركات الألمانية من خفض استهلاكها من الغاز بنسبة 20%، فإن الناتج الصناعي لم ينخفض؛ وقد تم تعويض الانخفاض في الصناعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة من خلال النمو في القطاعات الأخرى.
يمكن أن تُعزى هذه المرونة جزئيًا إلى مزيج من زيادة كفاءة استخدام الطاقة واستبدال الغاز الطبيعي بأنواع الوقود البديلة. علاوة على ذلك، عادت أسعار الغاز الطبيعي إلى مستوياتها التي كانت عليها قبل الحرب. نتيجة لذلك، أدت محاولة روسيا لاستخدام صادراتها من الغاز كسلاح ضد أوروبا إلى خسارة الإيرادات، حيث لم يكن من السهل بيع الغاز، الذي كانت تستخدمه لتسليمه لأوروبا، في أماكن أخرى. ولا يزال خط الأنابيب البديل المُمتد إلى الصين الذي كثُر التباهي به في طور التخطيط، مع تأجيل الصين مرارًا للموافقة النهائية عليه.
لا ينبغي للنجاح المحدود الذي حققته العقوبات الغربية على روسيا، فضلاً عن نجاح التدابير المُضادة التي اتخذتها روسيا، أن يُشكل مفاجأة. لقد حاولت دول عديدة في السابق توظيف التجارة كسلاح، وكانت النتائج متباينة. على سبيل المثال، فشلت محاولات الصين لممارسة "الإكراه الاقتصادي" (المُصطلح الذي تستخدمه الدول الغربية لوصف العقوبات التي تفرضها الدول الأخرى) ضد أستراليا الأصغر حجمًا بشكل متكرر.
وبالتالي، فإن الحُجة القائلة بأن أوروبا ينبغي أن تتخلى عن التزامها "الساذج" المفترض بالتجارة الحرة لأن بلدانا أخرى تستخدم التجارة كسلاح تُعد أقل إقناعاً مما بدت عليه في البداية. من خلال إنشاء احتياطي استراتيجي، يمكن للدول الأوروبية تخفيف سيطرة الصين على المواد الخام الحرجة بتكلفة منخفضة نسبيًا، والتي تخشاها بشكل متزايد.
علاوة على ذلك، يمكن للأسواق العالمية توفير بدائل لأغلب المنتجات الصناعية الصينية الصنع. ومن المهم أن نتذكر أنه من غير المرجح أن يدعم كبار المنتجين الصناعيين الصين إذا اختارت فرض عقوبات على الاتحاد الأوروبي أو الغرب ككل. وينطبق هذا الأمر بشكل خاص على أشباه الموصلات، التي تعتمد أوروبا في المقام الأول على مصادر غير صينية للحصول عليها. ولهذا السبب، تُعد استراتيجية المفوضية الأوروبية المُتمثلة في الحد من الواردات الصينية من خلال تدابير مختلفة، بما في ذلك تحقيقات مكافحة الدعم، غير منطقية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمنتجات التي تُشكل ضرورة أساسية لعملية الانتقال الأخضر، مثل الألواح الشمسية وتوربينات الرياح.
على نحو مماثل، أصبحت المشاركة في مناقشة عقلانية حول العلاقات التجارية مع الصين في الولايات المتحدة أمراً شبه مستحيل. وتهدف إدارة الرئيس جو بايدن رسميًا إلى الحفاظ على أغلب الروابط التجارية مع فرض لوائح صارمة على عدد قليل من القطاعات، وهي استراتيجية شبّهها مستشار الأمن القومي جيك سوليفان «بفناء صغير وسياج مرتفع». ولكن في واقع الأمر، كان العداء العام تجاه المنتجات الصينية الصُنع سبباً في توسيع "الفناء الصغير". في بداية الأمر، استهدفت سياسة الولايات المتحدة أشباه الموصلات المُتقدمة ومعدات صنع الرقائق الإلكترونية، والتي غالبًا ما يتم إنتاجها في أوروبا. ولكن الآن، تشمل المناطق الواقعة خلف الأسوار العالية البطاريات وسلسلة توريد السيارات الكهربائية بأكملها.
على الرغم من أن تهديدات الصين بممارسة الإكراه الاقتصادي تميل إلى المبالغة وعادة ما يمكن التحكم فيها، إلى أن أوروبا والولايات المتحدة ودول غربية أخرى لا تزال تقيم حواجز تجارية مُكلفة في محاولة للتخفيف من هذه المخاطر المُتوقعة. وحتى أولئك الذين يعترفون بالفعالية المحدودة للإكراه الاقتصادي الصيني كثيراً ما يُجادلون بأن أوروبا يجب أن تحد من التجارة مع الصين استعداداً للعقوبات الشاملة التي قد تُفرض عليها إذا ما غزت تايوان.
ومع ذلك، تُخاطر الدول الغربية بتكبد تكاليف سيناريو من غير المرجح أن يتحقق. ويتعين على صُناع السياسات بناء قراراتهم على الخبرة والمنطق الاقتصادي السليم بدلاً من الاعتماد على التوقعات. إن الفوائد الناتجة على الحفاظ على العلاقات التجارية مع الصين تفوق بكثير المزايا النظرية المُترتبة على زيادة المرونة الجيواستراتيجية.
اضف تعليق