سيكون من الحكمة أن تبحث طهران وواشنطن على حد سواء عن فرص لتفكيك التوترات. في الوقت الحاضر، قد يكون ذلك مستحيلاً سياسياً. لكن حالما تتاح فرصة لاستئناف الدبلوماسية غير المباشرة الهادئة التي أدَّت إلى تهدئة ما قبل حرب غزة، ينبغي على الطرفين اغتنامها، وربما العودة إلى العُمانيين والطلب...
مهما كانت حصيلة حرب غزة مروِّعة حتى الآن، فإنها ستصبح أسوأ إذا اندلع قتال مستمر بين الولايات المتحدة وإيران أو حلفائها في الشرق الأوسط. فيما يلي، يعرض خبراء مجموعة الأزمات برايان فينوكين، ولهيب هيغل، ونيسان رافاتي وعلي فايز هذه المخاطر.
ما الذي يحدث؟
تبدو الولايات المتحدة منخرطة في موجة تصعيدية من الضربات والضربات المضادَّة مع مجموعات مدعومة من إيران في الشرق الأوسط. بدأ المدُّ التصاعدي في 17 تشرين الأول/أكتوبر، بوقوع هجمات استُعملت فيها طائرات مسيَّرة ونيران غير مباشرة ضد القوات الأميركية الموجودة في العراق وسورية. ويظهر أن المجموعات المدعومة من إيران في العراق هي الجهات الوحيدة التي أعلنت مسؤوليتها عن هذه الهجمات، التي تحدث وسط حشدٍ للأصول العسكرية الأميركية في المنطقة بينما تمضي إسرائيل قُدُماً في هجومها في قطاع غزة. لقد ردَّت الولايات المتحدة حتى الآن مرتين، في 26 تشرين الأول/أكتوبر و8 تشرين الثاني/نوفمبر.
في المرة الأولى، شنَّت القوات الأميركية غارات جوية على أهداف في شرق سورية وصفتها واشنطن بأنها “منشآت يستعملها الحرس الثوري الإسلامي الإيراني والمجموعات المرتبطة به من أجل السيطرة والتحكُّم، وتخزين الذخائر، وأغراض أخرى“. لم يتحقَّق الهدف المعلن المتمثِّل في ردع مزيد من الضربات على القوات الأميركية؛ فقد استمرت الهجمات التي تشنُّها مجموعات مدعومة من إيران على القوات الأميركية في العراق وسورية على حد سواء. في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر، قدَّرت الولايات المتحدة أن ما لا يقل عن 40 هجوماً من هذا النوع – نحو نصفها في العراق والنصف الآخر في سورية – كانت قد حدثت منذ منتصف الشهر الماضي. ووقع ما لا يقل عن 22 منها بعد أن وجَّهت الولايات المتحدة ضربتها المضادة في 26 تشرين الأول/أكتوبر؛ واستعملت في آخر تلك الضربات أسلحة أكثر قوة. مع استمرار الهجمات، شنَّت الولايات المتحدة غارة جوية أخرى في 8 تشرين الثاني/نوفمبر على ”مستودع أسلحة” في شرق سورية “يستعمله الحرس الثوري الإسلامي الإيراني والمجموعات المرتبطة به“. مرة أخرى، كان الأثر الرادع لتلك الهجمات موضع شك، بالنظر إلى أن الهجمات على القوات الأميركية في العراق وسورية كانت ما تزال مستمرة وقت نشر هذه المادة.
لقد أدَّت الهجمات التي حدثت منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر إلى جرح أكثر من 50 فرداً من الطواقم الأميركية، أغلبيتهم حتى الآن في التنف، وهو موقع قاعدة عسكرية في جنوب شرق سورية. أصيب متعاقد أميركي بسكتة قلبية بينما كان في ملجأ في العراق. وربما نَجَمَ عن الغارة الجوية الأميركية في 8 تشرين الثاني/نوفمبر أيضاً وقوع قتلى بين الطواقم المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، رغم أن البنتاغون يؤكد عدم إصابة أي مدنيين بأذى.
رغم تتابع الضربات والضربات المضادة، لا يبدو أن أيَّاً من الطرفين – الولايات المتحدة وإسرائيل، من جهة، وإيران والمجموعات التي تدعمها، من جهة أخرى – يريد تصعيداً إقليمياً كبيراً. مع استمرار الحرب في قطاع غزة، فإن مخاطر حدوث ذلك بالتحديد ستستمر في الارتفاع.
من هي المجموعات التي تطلق النار على الولايات المتحدة؟
لقد أعلن كيان جامع يُسمي نفسه المقاومة الإسلامية مسؤوليته عن أغلبية الهجمات على القوات الأميركية في العراق وسورية على حد سواء. ويبدو أن المقاومة الإسلامية تتكون من مجموعات عراقية مرتبطة بـ“محور المقاومة” – شبكة الدول المتحالفة مع إيران، مثل سورية، وجهات فاعلة ليست دول تشمل الحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان ومجموعات فلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي. تبنَّت المجموعات العراقية الاسم الجديد بعد حملة إسرائيل العسكرية التي جاءت رداً على هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر على إسرائيل. وتشمل المجموعات العراقية الرئيسية في هذا التحالف كتائب حزب الله، وحركة النجباء، وكتائب سيد الشهداء، وعصائب أهل الحق ومنظمة بدر. ويقول مراقبون على معرفة وثيقة بالأحداث لمجموعة الأزمات إن الكيانات الثلاثة الأولى فقط هي التي شاركت في أحدث الهجمات. حتى الآن، اقتصرت مساهمة الكيانين الأخيرين على تشجيع العمليات والاحتفاء بها.
تقول مصادر قريبة من القتال إن الضربات الانتقامية الأميركية أصابت فقط منشآت تعود إلى مجموعات عراقية تتخذ مواقع لها قرب البوكمال في سورية، فأحدثت أضراراً ببرادات لنقل البضائع. لم تضرب الولايات المتحدة أهدافاً في العراق، رغم ما يبدو من أن كثيراً من الهجمات على القوات الأميركية كان مصدره العراق، وشُنَّت هجمات أخرى من داخل سورية. في هذا الصدد، استمرت إدارة بايدن على النهج الذي تبنَّته أخيراً والمتمثل في الإحجام عن ضرب مجموعات في العراق؛ بل إنها لم تَعزُ الضربات التي وُجِّهت للولايات المتحدة إلى هذه المجموعات. قد يكون الحذر ناجماً عن رغبة بالاحتفاظ بعلاقات جيدة مع بغداد. إذ تريد واشنطن تجنُّب سيناريو قد تتعرض فيه الحكومة العراقية إلى ضغوط سياسية داخلية لمطالبة الولايات المتحدة بسحب قواتها من البلاد.
كما في الماضي، فإن الولايات المتحدة لم تُقدِّم سوى أوصاف غامضة للكيانات المسؤولة عن مهاجمة القوات الأميركية. ففي تشرين الأول/أكتوبر، أشار وزير الدفاع لويد أوستن إلى أن الأطراف المهاجِمة كانت ببساطة “ميليشيات مدعومة من إيران“. وكان أوستن أيضاً عامَّاً جداً في تشخيصه لمن ضربته الولايات المتحدة رداً على ذلك، واصفاً الأهداف بأنها “منشأتين في شرق سورية يستعملهما الحرس الثوري الإسلامي الإيراني والمجموعات المرتبطة به“. ولم تحدِّد إدارة بايدن هذه “المجموعات المرتبطة“. رغم أن أوستن قال إن الحرس الثوري كان يستعمل المنشآت المعنية، من الواضح أن الولايات المتحدة تعي مخاطر التصعيد وتحاول تحاشيه. ووفقاً لجميع المظاهر، فإنها حاولت تفادي إلحاق أضرار بطواقم الحرس الثوري الإيراني أو أفراد الميليشيات المدعومة من إيران في أحدث هذه الضربات، واستهدفت بدلاً من ذلك تدمير منشآت، رغم أنه كما لاحظنا ربما تكون قد وقعت وفيَّات نتيجة ضربة 8 تشرين الثاني/نوفمبر.
يتمثل لاعب إقليمي آخر هاجم الأصول العسكرية الأميركية في الحوثيين – المتمردون الذين أخرجوا الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً من العاصمة، صنعاء، والمتحالفون مع إيران. في 8 تشرين الثاني/نوفمبر، أسقط الحوثيون طائرة مسيَّرة أميركية من طراز ريبر MQ-9 قرب الساحل اليمني على البحر الأحمر. كان الحوثيون قد حاولوا مرتين من قبل إطلاق صواريخ على إسرائيل، فاعترضت السفينة الأميركية يو إس إس كارني أحدها في 19 تشرين الأول/أكتوبر وأسقطت إسرائيل صاروخاً آخر في 31 تشرين الأول/أكتوبر.
ما خلفية هذه الأعمال العدائية في العراق؟
ترسَّخت تسوية مؤقتة وقلقة بين القوات الأميركية والميليشيات المدعومة من إيران في العراق بعد أن أعاد الرئيس باراك أوباما القوات العراقية إلى العراق لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2014، بعد أن كان قد سحبها قبل بضع سنوات فقط. كثير من الميليشيات ينتمي إلى الحشد الشعبي المكوَّن من أعداد كبيرة من المقاتلين الذين استجابوا لدعوة رجال الدين الشيعة في عام 2014 لتخليص العراق من تنظيم الدولة. كان بعض هذه المجموعات وأفرادها قد حاربوا سابقاً الجيش الأميركي عندما كان موجوداً في العراق بين عامي 2003 و2011 – أي الفترة التي تلت الغزو الأميركي. حاربت القوات الأميركية وقوات الحشد تنظيم الدولة الإسلامية بالتوازي حتى عام 2017، وفعلا ذلك كلاهما برعاية الحكومة العراقية. أحجمت المجموعات المدعومة من إيران داخل الحشد بصورة عامة عن استهداف القوات الأميركية، بطلب من طهران فيما يبدو؛ إذ إن إيران والولايات المتحدة كانتا تتشاطران هدف القضاء على تنظيم الدولة.
في عام 2018، بدأت العلاقة بين القوات الأميركية والمجموعات المدعومة من إيران – التي كانت متوترة لكنها لم تصل إلى حد الأعمال القتالية الصريحة – بالتداعي، بعد قيام الرئيس دونالد ترامب بالانسحاب أحادياً من الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015. تنامت الاحتكاكات مع إعادة واشنطن فرض العقوبات على إيران كجزء من حملة ترامب في فرض “أقصى الضغوط” وقرارها في نيسان/أبريل 2019 إعادة تصنيف الحرس الثوري الإسلامي الإيراني منظمة أجنبية إرهابية. في كانون الأول/ديسمبر 2019، أدَّى هجوم صاروخي على القوات الأميركية إلى مقتل متعاقد مدني أميركي وجرح أربعة من أفراد القوات الأميركية. حمَّلت إدارة ترامب مسؤولية الهجوم لكتائب حزب الله وردَّت بغارات جوية على المجموعة في العراق وسورية على حد سواء. في 31 كانون الأول/ديسمبر 2019، نظَّمت كتائب حزب الله وميليشيات أخرى مدعومة من إيران مظاهرة خارج السفارة الأميركية في بغداد، تحوَّلت إلى العنف، وأحدثت أضراراً كبيرة في الممتلكات الأميركية.
شكَّل القتال بين القوات الأميركية والقوات المدعومة من إيران في العراق خلفية الغارة الجوية الأميركية في 2 كانون الثاني/يناير 2020 التي أدَّت إلى مقتل الجنرال قاسم سليماني، قائد قوة القدس النخبوية التابعة للحرس الثوري الإسلامي الإيراني، وأبو مهدي المهندس، مؤسِّس وقائد كتائب حزب الله، وقائد الحشد الشعبي أيضاً. وخلال أيام، ردَّت إيران بوابل من الصواريخ البالستية التي استهدفت القوات الأميركية في قاعدة عين الأسد الجوية في غرب العراق. رغم أن ترامب غرَّد أن “كل شيء على ما يرام،” فإن الهجوم المضاد أدى إلى تعرُّض أكثر من 100 من أفراد القوات الأميركية إلى إصابات دماغية بسبب الصدمة. منح البنتاغون لاحقاً هؤلاء الأشخاص وسام القلوب الأرجوانية – وهو وسام يُمنَح للجنود الذين يُقتَلون أو يُجرَحون في المعركة – بسبب إصاباتهم التي قلَّل ترامب من شأنها ووصفها بـ“حالات صداع“.
تبجح وزير خارجية ترامب، مايك بومبيو، بأن قتل سليماني كان قد “استعاد قوة الردع“، في حين يشير سجل الأحداث إلى غير ذلك. إذ استمرت الهجمات التي تشنُّها مجموعات مدعومة من إيران على القوات الأميركية في العراق خلال ما تبقى من مدة وجود ترامب في منصبه. ففي آذار/مارس 2020، أدى هجوم صاروخي على القوات الأميركية إلى مقتل جنديين أميركيين، الأمر الذي دفع إلى مزيد من الغارات الجوية الانتقامية على كتائب حزب الله في العراق، التي حمَّلتها الحكومة الأميركية مسؤولية وقوع القتلى.
كما تكررت الهجمات على القوات الأميركية في العراق خلال العام الأول لرئاسة جو بايدن، لكن شهد الوضع تحسَّناً بعد ذلك. فبحلول أيلول/سبتمبر 2022، كانت المجموعات في العراق قد بدأت الالتزام بهدنة أحادية فيما يتعلق بالقوات الأميركية في العراق، وهو ترتيب أصبح رسميَّاً عندما تشكَّلت حكومة محمد شياع السوداني في تشرين الثاني/نوفمبر.
ما خلفية الأعمال العدائية في سورية؟
تصاعدت الأعمال العدائية بين الولايات المتحدة والمجموعات المدعومة من إيران في سورية أيضاً خلال إدارة ترامب، حيث تركَّز جزء كبير من القتال حول القاعدة العسكرية الأميركية في التنف. في فترة سادتها تبادلات مكثفة على نحو خاص، في أيار/مايو وحزيران/يونيو 2017، اشتبكت القوات الأميركية على نحو متكرِّر مع مقاتلين يدعمون الحكومة السورية، فشنَّت غارات جوية على القوات البرية وأسقطت مسيَّرتين.
ليس من الواضح ما هي المهمة الدقيقة التي تهدف القوات الأميركية في التنف إلى تحقيقها. رغم أن واشنطن أرسلت قواتها كجزء من الحملة الرامية إلى محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، إلّا أنها لم تكن قد حققت شيئاً يذكر في ذلك الصدد مع نهاية عام 2018. أراد البنتاغون سحبها، لكن صقور إيران مثل بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون دعوا إلى إبقائها هناك لمواجهة طهران. (يكتب بولتون في مذكراته “كان وزير الدفاع [جيمس ماتيس] متشكِّكاً بقيمة التنف، ربما لأنه كان يركز على تنظيم الدولة الإسلامية بدلاً من إيران. أما أنا فقد كانت إيران هاجسي الرئيسي، وظللت حازماً فيما يتعلق بالتنف طوال مدة وجودي مستشاراً للأمن القوي“.)
استمرَّت الصدامات بين القوات الأميركية والميليشيات المدعومة من إيران في سورية عند مغادرة ترامب منصبه. قبل تشرين الأول/أكتوبر، كانت إدارة بايدن قد نفَّذت أربع غارات جوية على “ميليشيات مدعومة من إيران” غير محدَّدة في سورية، رداً على هجمات بالمسيَّرات والصواريخ على المنشآت الأميركية. في إطار تبريرها للغارات الجوية التي حدثت في شباط/فبراير وحزيران/يونيو 2021، وآب/أغسطس 2022، وآذار/مارس 2023، قالت الولايات المتحدة إنها “قد شُنَّت بطريقة تهدف إلى ترسيخ الردع“. كما أشارت فيكتوريا نولاند، نائبة وزير الخارجية للشؤون السياسية، على نحو مماثل إلى نيَّة الردع وراء الغارات السابقة في جلسة استماع للكونغرس في 28 أيلول/سبتمبر 2023.
في الوقت نفسه، لم تردّ الولايات المتحدة على كل هجوم على قواتها في العراق وسورية. على سبيل المثال، خلال الفترة الممتدة من كانون الثاني/يناير 2021 إلى آذار/مارس 2023، حدث 83 هجوماً من هذا النوع لم تؤدِّ إلى غارات جوية انتقامية، طبقاً لإفادة الجنرال مارك ميلي، الذي كان حينذاك رئيساً لهيئة الأركان المشتركة. جدير بالذكر، أن المجموعات التي تهاجم القوات الأميركية حالياً تتكون على الأرجح من عراقيين ينشطون في سورية.
لماذا تحدث هذه الأعمال العدائية بين القوات الأميركية والمجموعات المدعومة من إيران الآن؟
أنهى ارتفاع وتيرة الهجمات على القوات الأميركية التي بدأت في تشرين الأول/أكتوبر 2023 هدوءاً مؤقتاً يُعتقَد أنه كان جزءاً من تفاهمات غير رسمية على خفض التصعيد بين واشنطن وطهران. وكان الهدوء النسبي نتيجة مفاوضات غير مباشرة في عُمان في أعقاب الهجوم الذي شنَّته ميليشيات مدعومة من إيران في آذار/مارس 2023 في سورية وأدَّى إلى مقتل أحد أفراد القوات الأميركية. في أيلول/سبتمبر، لاحظ مسؤولون أميركيون أن أكثر من عام كان قد مضى منذ الهجوم الأخير على القوات الأميركية في العراق، بينما لم يحدث أي هجوم في سورية منذ وقوع الهجمات المتبادلة في آذار/مارس.
لكن ذلك تغيَّر بسرعة في تشرين الأول/أكتوبر. فبعد أسبوع من إطلاق إسرائيل لحملتها العسكرية في قطاع غزة، ردَّاً على هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر في إسرائيل، بدأت المجموعات المدعومة من إيران باستهداف القوات الأميركية في سورية والعراق على حد سواء. في الماضي، كانت هجمات المجموعات المدعومة من إيران على القوات الأميركية في سورية (ولا سيما على قاعدة التنف) تأتي في أعقاب أعمال عسكرية إسرائيلية في سورية أو جزءاً من حملة طهران لتوجيه ضغوط مضادة على الولايات المتحدة في العراق و/أو سورية. لكن هذه المرة كان من الواضح أن السبب كان مختلفاً. تزامن استئناف الهجمات مع تكثُّف حدة الصراع في قطاع غزة، الذي حدث في اليوم نفسه (17 تشرين الأول/أكتوبر) الذي وقع فيه تفجير مميت في المستشفى الأهلي في القطاع الذي يحمِّل كثيرون مسؤوليته (ربما على نحو خاطئ) لإسرائيل. تشير الهجمات المتجدِّدة على القوات الأميركية، والمترافقة مع هجمات مزعومة أو مؤكَّدة على إسرائيل من قِبَل مجموعات في لبنان، وسورية، والعراق واليمن، إلى جهد يبذله “محور المقاومة” للضغط على إسرائيل لخفض حدَّة عملياتها في قطاع غزة. وبدا أن المجموعات التي تقف خلف الهجمات توجه تهديداً ضمنياً مفاده أنه ما لم تغيِّر إسرائيل مسارها، فإن المجموعات قد تفتح جبهات إضافية ضد الولايات المتحدة، التي يرون أنها توفِّر لإسرائيل دعماً حاسماً في حملتها في قطاع غزة.
وفيما يعكس على الأرجح رغبتها بتجنب حدوث تصعيد إقليمي، أظهرت الولايات المتحدة درجة من التسامح أكبر من المعتاد وذلك بالتساهل حيال عشرين هجوماً، طبقاً لأحد الحسابات قبل أن تردَّ في تشرين الأول/أكتوبر، وحيال عشرين هجوماً آخر أو أكثر قبل توجيه ضربة مضادَّة في تشرين الثاني/نوفمبر. لكن الإصابات التي وقعت أخيراً في صفوف أفراد القوات الأميركية (بما في ذلك الأضرار الدماغية المرتبطة بالصدمة) ومقتل متعاقد أميركي جراء سكتة قلبية – ناهيك عن استمرار الهجمات بالمسيَّرات والصواريخ على القواعد الأميركية – وضع إدارة بايدن في موقع شعرت معه أنه كان عليها أن تردّ.
ما أهمية ذلك؟
رغم أن أحدث تبادلات النيران بين الولايات المتحدة والمجموعات المدعومة من إيران تبدو عودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل تفاهمات خفض التصعيد التي جرى التوصل إليها في عُمان، إلّا إن تواترها ونطاقها يسهم في نشوء خلطة خطيرة على نحو خاص، ولا سيما في البيئة المتوترة الراهنة. يمكن لأي خطأ في الحسابات أو حدث عاثر أن يفضي إلى تصعيد كبير. على سبيل المثال، إذا بدأ وقوع عدد كبير من الضحايا من القوات الأميركية من خلال ضربات أخرى، فإن توجيه ردٍّ أميركي يطال أفراداً في الحرس الثوري الإسلامي الإيراني ردٌّ يمكن تصوُّر حدوثه. وقد تفضي الديناميكية الناجمة عن ذلك إلى صراع أوسع بين الولايات المتحدة وإسرائيل، من جهة، وإيران و“محور المقاومة“، من جهة أخرى، سواء كان في تلك الحصيلة خدمة لمصالح أي من الطرفين أم لا.
لقد بعثت واشنطن إلى طهران بإشارة تفيد برغبتها بخفض التصعيد وسَعَت إلى استعراض قوَّتها. ومع استمرار الضربات على القوات الأميركية، يُذكَر أنها حاولت تحذير طهران بأن تلك الضربات ينبغي أن تتوقف. كما أوضحت أنها تُحمِّل إيران المسؤولية عن الهجمات على القوات الأميركية، سواء نفذتها قوات تابعة لدول أو مجموعات مدعومة من إيران. لدى إعلان جولات الضربات التصعيدية التي وقعت في 26 تشرين الأول/أكتوبر و8 تشرين الثاني/نوفمبر، رفعت إدارة بايدن الرهانات لفظياً على نحو أكبر أيضاً بربط المواقع التي تستهدفها بالدولة الإيرانية – مشيرة إلى “منشآت يستعملها الحرس الثوري الإسلامي الإيراني ومجموعات مرتبطة به“. إذا استمرت الهجمات على القوات الأميركية، ولا سيما إذا ارتفع عدد ضحاياها من الأميركيين، قد تشعر إدارة بايدن بأنها مجبرة على تصعيد ردِّها مرة أخرى. رداً على تحطُّم طائرة مسيَّرة مفخخة في ثكنة أميركية في قاعدة أربيل الجوية في العراق (دون أن تنفجر) في 25 تشرين الأول/أكتوبر، لاحظ مسؤول عسكري أميركي قائلاً: “إنهم يصوبون ليقتلوا. لقد كنا محظوظين، ببساطة“. لكن ذلك الحظ قد ينفد في النهاية.
إيران، من جهتها، حذَّرت إسرائيل من توسيع عمليتها البرية في قطاع غزة، بينما حذَّرت الولايات المتحدة من أن دعمها لحملة إسرائيل يمكن أن يشكِّل مقدِّمة إلى مواجهة إقليمية تشمل شبكة الشركاء التي دأبت على بنائها على مدى عقود. سواء كانت المجموعات الحليفة لإيران تعمل وفقاً لتعليمات صريحة من طهران أم بموافقتها الضمنية، فإنها تنشط الآن في خمسة مسارح عمليات على الأقل – قطاع غزة، جنوب لبنان، العراق، سورية واليمن – حيث تتمتع إيران بدرجة من النفوذ.
إلا إن توسيع نطاق هذه الأفعال ردّاً على التطورات في قطاع غزة ينطوي على مخاطر كبيرة بالنسبة لطهران. فالشبكة التي طوَّرتها تهدف على نحو رئيسي إلى ردع خصوم النظام عن تهديد إيران نفسها فيما وُصِف بأنه إستراتيجية “دفاع متقدم“، حيث تفرض نفوذها في المنطقة برمَّتها وتتحدَّى خصومَها على أراضي أطراف ثالثة. يمكن للتصعيد في شمال إسرائيل وجنوب لبنان أن يدفع إسرائيل، ربما بدعم من الولايات المتحدة، إلى تقليص قدرات حزب الله، الذي يمكن القول إنه أقوى عنصر في شبكة إيران. كما يمكن لتصاعد الهجمات على القوات الأميركية بشكل يفضي إلى ردٍّ أميركي أن يُشعل فتيل حلقة تصعيدية بين الولايات المتحدة وإيران يتحوَّل إلى صراع قائم بذاته، بصرف النظر عن التطورات في إسرائيل وقطاع غزة. وستكون تلك الحلقة مؤلمة لطهران.
رغم ذلك، يمكن لإيران وحزب الله أن يقرِّرا أنهما بحاجة إلى اتخاذ مخاطر تصعيدية كبيرة، اعتقاداً منهما أن من غير الممكن لـ“محور طهران” أن يقف متفرجاً بينما يرتفع عدد الضحايا المدنيين في قطاع غزة ويصبح حليفٌ محليٌ آخر، هو حماس، أضعف كثيراً. وطبقاً لهذا المنطق، فإن عدم المشاركة سيكشف محدودية قدرات “المحور” على حشد الدعم لأعضائه. لكن في هذه المرحلة، ليس من الواضح ما الذي يمكن أن يدفع إيران وحلفاءها في العراق، ولبنان، وسورية واليمن إلى تجاوز الاستفزازات المحسوبة وتوجيه ردٍّ أكثر قوة، رغم أنه ينطوي على مخاطر أكبر.
ما الذي ينبغي أن تفعله الأطراف لخفض مخاطر التصعيد؟
لقد كانت حلقة الاستفزاز والردّ بين المجموعات المدعومة من إيران والقوات الأميركية في سورية والعراق خطيرة دائماً، لكنها خطيرة على نحو خاص الآن. مع استعار الحرب في قطاع غزة، فإن احتمال حدوث تصعيد إقليمي بات أكبر مما كان عليه منذ سنوات. لدى الجانبين الكثير مما يخسرانه إذا انجرَّا إلى مثل هذه الحلقة التصاعدية. وعلى هذه الخلفية، ينبغي على طهران أن تنظر بجديّة إلى المخاطر التي ستواجهها إن لم تضبط الميليشيات الشريكة لها وتمنعها من تصعيد هجماتها. كما ينبغي على الولايات المتحدة، من جهتها، معايرة ردودها بما تتطلبه من حكمة، والابتعاد عن الأفعال التصعيدية.
في الوقت نفسه، سيكون من الحكمة أن تبحث طهران وواشنطن على حد سواء عن فرص لتفكيك التوترات. في الوقت الحاضر، قد يكون ذلك مستحيلاً سياسياً. لكن حالما تتاح فرصة لاستئناف الدبلوماسية غير المباشرة الهادئة التي أدَّت إلى تهدئة ما قبل حرب غزة، ينبغي على الطرفين اغتنامها، وربما العودة إلى العُمانيين والطلب إليهم مرة أخرى أن يكونوا وسطاء. بالطبع، ستكون تهدئة التوترات أسهل إذا توقف القتال في قطاع غزة. وقد وضعت مجموعة الأزمات سابقاً توصيات بشأن أفضل سبل التحرك في هذا الاتجاه.
أخيراً، رغم أن الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2024 قد تُدخل عناصر إضافية في الحسابات، ينبغي على واشنطن إجراء تقييم طال انتظاره للمخاطر المتعلقة بنشر قواتها في المنطقة. وينبغي لهذا التقييم أن يدرس ما إذا كانت هذه القوات تشكِّل رادعاً لتصعيد يفضي إلى صراع أوسع، وكيفية موازنة المخاطر المترتبة على ذلك مقابل المزايا المفترضة لنشر هذه القوات فيما يتعلق بتعزيز جهود محاربة تنظيم الدولة الإسلامية. وقد تكون الحاجة إلى هذا التقييم أكثر وضوحاً فيما يتعلق بقاعدة التنف. ففي غياب قرار نهائي، قد ترغب إدارة بايدن بالنظر في إجراء مؤقت؛ إذ إنها كانت، في مناسبة سابقة، قد نقلت القوات الأميركية من التنف بهدوء (وإن كان بشكل مؤقت) عندما تعرَّضت للهجوم. يمكن أن تكون تلك سابقة مفيدة للحظة الراهنة.
اضف تعليق