تسريبات بيانات ذات أهمية ظاهرية تتضمن في العادة بعض الحقائق تغلّف الشأن الخاص، وتحميلها معلومات إما غير دقيقة أو كاذبة، بالإضافة إلى جهود التضليل لعدد من الخصوم، أبرزهم روسيا والصين وإيران. عند هذا المفصل، نشطت وسائل الإعلام الرئيسية في الترويج لتقييم مضمون الوثائق لتثبيت صدقيتها، أو بعضها...
د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
لم يحسم الجدل الداخلي الأميركي بشأن وثائق البنتاغون المسرّبة حديثاً أياً من التكهنات السياسية أو تداعياتها، وانحصر اهتمام المؤسسة الحاكمة في "قدرتها" الفائقة على إلقاء القبض على مشتبه به بسرعة ملحوظة.
وأقرّ كبار مسؤولي الأجهزة الأمنية بأن العملية "قد" تكون منظّمة لتسريب المعلومات السرّية التي من شأنها إلحاق الضرر بجهود الأجهزة الأميركية "وربما إعاقة التخطيط العسكري في أوكرانيا" لحلف الناتو بمجموعه.
ورجّحت كبرى المؤسسات الإعلامية الأميركية مسؤولية الأمر إلى قيادة هيئة الأركان المشتركة، برئاسة مارك ميللي، خصوصاً أن "عدداً من الوثائق حمل أختاماً تشير إلى مصدرها الأولي هو دائرة الاستخبارات التابعة لهيئة الأركان، وتبدو كأنها وثائق إحاطة" لمسؤولين كباراً (شبكة "سي أن أن"، 10 نيسان/إبريل 2023).
لعل الوثائق الأهم هي تلك المتعلقة بالكيان "الإسرائيلي"، والتي كشفت عنها يومية "نيويورك تايمز" وتتعلّق بوثيقة صادرة عن البنتاغون بعنوان "إسرائيل: مسارات تزويد أسلحة فتّاكة لأوكرانيا"، قالت إنها كانت بتاريخ 28 شباط/فبراير الماضي، وتتضمن جملة خيارات مقترحة لصنّاع القرار من أجل الحصول على "موافقة إسرائيل لتزويد أوكرانيا بأسلحة هجومية ودفاعية ومعدات أخرى " بينها "بطاريات (باراك8) للدفاع الجوي وصواريخ (سبايك) موجهة ضد المدرعات" (صحيفة "نيويورك تايمز"، 9 نيسان/إبريل 2023).
واستطردت الصحيفة أن الوثيقة هي عبارة عن "تحليل استكشافي" قام به البنتاغون للتوقف عند محطات الضغط الأميركي التي ستلبي فيها "إسرائيل" طلبها شريطة حصولها على "تأييد أميركي صارم" لدعم عملياتها داخل إيران، وستوفر تلك الأسلحة عبر طرف ثالث، ربما تركيا.
صدقية محتويات الوثائق "بالغة السرّية"، كما وُصفت، لا تزال محط تكهنات من قبل المختصين بالشأن العسكري، ومنهم أطقم البنتاغون الذين أعلنوا بعد بضعة أيام بأنها "تبدو حقيقية"، إذ ساهم الناطق باسم البنتاغون في تعريفها كـ "خطر كبير جداً على الأمن القومي" (البنتاغون"، 10 نيسان/إبريل 2023).
تسريبات بيانات ذات أهمية ظاهرية تتضمن في العادة بعض الحقائق تغلّف الشأن الخاص، وتحميلها معلومات إما غير دقيقة أو كاذبة، بالإضافة إلى جهود التضليل لعدد من الخصوم، أبرزهم روسيا والصين وإيران. عند هذا المفصل، نشطت وسائل الإعلام الرئيسية في الترويج لتقييم مضمون الوثائق لتثبيت صدقيتها، أو بعضها.
على سبيل المثال، وصفت يومية "وول ستريت جورنال" بتاريخ 7 نيسان / إبريل الحالي بأن التسريب يشمل "أكثر من 100 صورة طبق الأصل لوثائق سرّية نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي". وفي اليوم التالي، شددت صحيفة "نيويورك تايمز" على مضامين "الكنز الدفين"، كما سمّته، بأنها "أوضحت مدى قدرة الولايات المتحدة على تحذير أوكرانيا قبل بدء الغارات الروسية"، وأن "القوات العسكرية الروسية تجهد في تنفيذ مهام الحرب، وكذلك لتبيّن الثغرات العميقة في منظومتها العسكرية".
بينما تبرّعت صحيفة "واشنطن بوست، بتاريخ 7 نيسان / إبريل الحالي، بوصف مضامين الوثائق المسرّبة بأنها تشمل "إحاطات استخبارية في عموم العالم وصولاً إلى مستوى تحديثات التكتيك الميداني، وتقييم قدرات أوكرانيا الدفاعية". وأضافت استناداً إلى قراءتها ومصادرها الاستخبارية الخاصة بأن الوثائق "تضمّنت تقييمات أميركية بالغة السرّية حول الصين ودول أخرى".
وعادت الصحيفة في اليوم التالي، 8 نيسان/إبريل الحالي، إلى إضفاء مزيد من لهجة التأكيد بصدقية مضامين الوثائق لتخبر قراءها بأن "الذعر ينتاب القيادات العليا" في البنتاغون، وبعضهم عبّر عن "ذهوله وغضبه الشديد" جراء الاختراق الأمني.
بعض الاختصاصيين في مجال البيانات السرّية أكدوا أنه "من المعتاد إقدام الحكومة (الأميركية) على المبالغة في مدى الضرر المزعوم الناجم عن رؤية وثائق سرّية في متناول العامة"، مشيرين إلى تفاعلات 3 حوادث تسريب سابقة لوثائق عسكرية سرّية: الأولى في عام 1971 فيما عُرف لاحقا بـ "وثائق البنتاغون" عن الحرب الأميركية على فيتنام؛ والثانية لنشر المتعاقد مع وكالة الأمن القومي، إدوارد سنودن، وثائق تبيّن مدى انخراط الأجهزة الأمنية في التجسّس على المواطنين الأميركيين؛ والثالثة لما قدمته المجندة في استخبارات سلاح الجيش، تشيلسي مانينغ، في مقاطع فيديو بيّنت ارتكاب القوات الأميركية مجزرة بحق صحافيين ومدنيين عراقيين في بغداد عن سبق إصرار وترصّد.
وخلصوا بالاستشهاد بتقييم وزير الدفاع الأميركي الأسبق، روبرت غيتس، للسردية الرسمية للحكومة الأميركية بهذا الشأن بأنها "مُتعبة إلى حد كبير" (نشرة "ذي انترسيبت"، 13 نيسان / إبريل 2023).
وقد أجمعت كبرى وسائل الإعلام المقروء والمصوّر على تقييم الوثائق الصادر عن "مسؤولين أميركيين" بأنها "أصلية" تتضمّن بيانات حسّاسة عن الصين وميادين المواجهة العسكرية المقبلة معها في المحيطين الهندي والهادئ والشرق الأوسط وجهود مكافحة الإرهاب.
وتكشف أيضاً مدى تجسّس الولايات المتحدة على حلفاء رئيسيين، منهم "كوريا الجنوبية وإسرائيل وأوكرانيا"، وتداعياتها على مجمل السياسة الخارجية للولايات المتحدة (شبكة "سي أن أن"، 10 نيسان / إبريل 2023).
زعمت الولايات المتحدة أنها لم ترسل قوات عسكرية أميركية إلى أوكرانيا، بل اقتصرت مهام أطقمها المختصة على تقديم المشورة والإشراف على جهود التدريبات العسكرية المختلفة، لتضليل الرأي العام الأميركي بدرجة أولى. وما لبثت أن أشارت الوثائق عينها إلى أن لدى واشنطن وحلفائها نحو 100 عنصر من القوات الخاصة في أرض الميدان، فضلاً عن أعداد أخرى من "قوات المتعاقدين" الأميركيين الذين لا تشملهم السجلات الرسمية.
وفيما يتعلق بحجم الخسائر البشرية لقوات الجانبين، روسيا وأوكرانيا، أعلن القائد الأعلى للقوات الأوكرانية المسلحة، فاليري زالوجني، أن بلاده خسرت ما لا يقل عن 257 ألف عنصر، خلال زيارته لواشنطن ولقائه وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان المشتركة في 16 كانون الثاني/يناير 2023.
يضاف إلى ذلك معدل الخسائر البشرية بين صفوف القوات الأوكرانية الذي يبلغ نحو 800 عنصر يومياً، أي بنسبة 7 إلى 1 من القوات الروسية، والذي يضيف 72 ألف قتيل أوكراني، على الأقل، منذ ذلك التاريخ.
أما خسائر الجانب الروسي، وفق المصادر الأميركية، فقد بلغت 181 ألفاً، بينهم 40 إلى 70 ألف قتيل (شبكة "أم أس أن"، 15 نيسان / إبريل 2023).
المتتبع للسردية الرسمية الأميركية، وعند مقارنتها ببعض تفاصيل الوثائق المسرّبة يجد كم هو الفارق بين المزاعم الرسمية والوقائع على الأرض.
فمثلاً، حافظت الرواية الأميركية على وصف الحرب الأوكرانية بأنها ليست حرباً بالوكالة، بين الولايات المتحدة وروسيا، والتي سرعان ما بددتها وثائقها المسرّبة عن عمد أو للتضليل.
كما شددت واشنطن الرسمية وأخطبوط وسائلها الإعلامية أنه لا وجود للقوات الأميركية في ميدان المعارك، لتسارع قياداتها بالإقرار بأن لديها "100 عنصر" من القوات الخاصة.
وما فتئت وسائل الإعلام كافة ترديد مزاعم أن روسيا تنهزم أمام صلابة القوات الأوكرانية التي ستستعيد أراضيها في إقليم الدونباس وشبه جزيرة القرم، فيما تبيّن وثائقها الخاصة مدى التضليل الذي تسير وفق إيقاعاته من أجل استدراج روسيا إلى حرب مع "حلف الناتو" أو أميركا مباشرة.
في ظل تلك اللوحة من التناقضات الأميركية، وتجسّسها على حلفائها قبل أعدائها، يستعد عدد من كبار مسؤوليها للسفر إلى ألمانيا الأسبوع المقبل للمشاركة في لقاء يشمل نحو 50 دولة "لتنسيق جهود توريد الأسلحة والدعم إلى أوكرانيا"، وستواجه فيه مجموعة حلفاء قلقين من الوثوق بها.
في المقابل، تسعى واشنطن إلى توجيه البوصلة بشأن تزويد كييف بأسلحة متطورة، بما فيها منظومات للدفاع الجوي، خصوصاً في هذا الظرف الذي تعاني فيه أوكرانيا من نزيف بشري كبير وتواضع أعداد التجنيد الإلزامي بسبب خسائرها البشرية العالية.
اضف تعليق