q
ربما هي المرة الأولى في تاريخ الكيان السياسي الأميركي التي يخضع فيها رئيسان، سابق وحالي، لإجراءات تحقيق متزامنة بتُهم مشابهة، فساد وحيازة وثائق سرية بعد مغادرة البيت الأبيض، وميل الرئيس بايدن وقادة حزبه إلى القفز عن تداعيات حيازة الوثائق، بحسب التسريبات الأخيرة، حتى لو أدت ذلك إلى إنهاء ملاحقة...
د. منذر سليمان و جعفر الجعفري

تدرّج العثور على وثائق بالغة السرية بحيازة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تعيين محقق خاص من قبل وزارة العدل، أثار جدلاً داخل قادة الحزب الديموقراطي بشأن فرصة تجديد انتخابه لولاية رئاسية ثانية، بالتزامن أيضاً مع عزم قادة الحزب الجمهوري المضي في التدقيق بمسار الرئيس سمّوه بـ "قمة الفساد" وسوء استخدام منصبه السياسي لإثراء نجله هنتر.

ربما هي المرة الأولى في تاريخ الكيان السياسي الأميركي التي يخضع فيها رئيسان، سابق وحالي، لإجراءات تحقيق متزامنة بتُهم مشابهة، فساد وحيازة وثائق سرية بعد مغادرة البيت الأبيض، وميل الرئيس بايدن وقادة حزبه إلى القفز عن تداعيات حيازة الوثائق، بحسب التسريبات الأخيرة، حتى لو أدت ذلك إلى إنهاء ملاحقة خصمه الرئيس ترامب. كل ذلك يعد بخلط شديد لأوراق الحزبين في البحث عن مرشح رئاسي يحظى بالتأييد وحسن السيرة.

ما يميّز تهمة حيازة الوثائق السرية بين الرئيس السابق دونالد ترامب ونائب الرئيس آنذاك جو بايدن النصوص الدستورية التي تتيح لرئيس البلاد صلاحية تصنيف أو إزالة التصنيف السرّي عن وثائق الدولة، لكن نائب الرئيس لا يتمتع بصلاحية مشابهة. اما صلاحيته الدستورية فهي محصورة في ترؤسه جلسة مجلس الشيوخ، وتسلم مهام الرئيس في حال الوفاة. ويتيح الدستور لرئيس البلاد تسليم وثائق لنائبه، وتنتهي صلاحية هذا البند مع مغادرتهما البيت الأبيض، في 20 كانون الأول/يناير السنة التالية للانتخابات.

الكشف المتسلسل "بالقطّارة" عن وثائق سرّية بحوزة نائب الرئيس جو بايدن، آنذاك، القت ظلالاً من الريبة على صدقيته وبقائه إلى نهاية ولايته الرئاسية. المتاعب الناجمة عن ذلك أدخلت توصيف "تحديات سياسية غير مسبوقة" على مستقبله السياسي. يسود القلق أيضاً قادة الحزب الديموقراطي لما عدّوه حملات إعلامية للبيت الأبيض لـ "صرف انتباه غير مرحّب به" بالتزامن مع جهود فاشلة لاحتواء الضرر (نشرة "ذي هيل"، 16 كانون الثاني/يناير 2023).

وعد الرئيس بايدن بإعلان نيته خوض جولة الانتخابات الرئاسية المقبلة في شهر آذار/مارس المقبل. أما بعد ملاحقته في سلسلة من الفضائح والتحقيقات، وهبوط مؤشرات شعبيته إلى نحو 44% (بحسب موقع "فايف ثيرتي إيت FiveThirtyEight"، فقد يفسح المجال واسعاً لمرشحين آخرين، واستعداد التيار الليبرالي داخل الحزب الديموقراطي دخول السباق الرئاسي، كما أعرب السيناتور بيرني ساندرز والذي سيتخذ قراراً بشأن ذلك في الأسابيع المقبلة.

فرصة لدخول عناصر جديدة على السباق الانتخابي؟

حالة التردي لدى الحزبين وانعكاس فسادهما على عموم المسار السياسي قد يحفّزان عناصر "جديدة" على دخول السباق الرئاسي، وربما من خارج مراكز القوى في واشنطن، أسوة بالرئيس السابق دونالد ترامب. لعلّ الأهم من كل ذلك هو الفرصة التي يحتاجها الحزبان لتجديد أمل الكيان السياسي وضخ "دماء جديدة" بعد فترات متتالية من الترهّل وإعادة إنتاج السياسات السابقة ورموزها في آن واحد.

سيلقي الرئيس بايدن خطابه السنوي عن "حال الأمة" مطلع الشهر المقبل، وربما إعلان نيته للترشح للانتخابات الرئاسية، فيما الأجواء متلبّدة بمشاعر الشكوك، بالرغم من تأكيده أن الأزمة الناجمة "تافهة، والشعب الأميركي لا يدرك حقيقة ما يجري"، في حين أعربت غالبية لافتة من الشعب الأميركي، 60%، عن عدم ثقتها بتصرف الرئيس (يومية "يو أس إيه توداي"، 22 كانون الثاني/يناير 2023).

جوهر قلق قادة الحزب الديموقراطي يتمثّل في تخبط البيت الأبيض في ثنايا سعيه لاحتواء المسألة، إذ صدر بيان رسمي مطلع الشهر الجاري "يقرّ بوجود وثائق سرّية في مكتب خاص في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، لكنه تجاهل الكشف عن مجموعة ثانية من الوثائق كانت مخزّنة في منزل الرئيس الخاص" في ولاية ديلاوير، في نهاية شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، ومراهنة فريق الرئيس بايدن على أن "الإعلان التام لن يخفف من وطأة الغضب العام" (شبكة "سي أن أن"، 23 كانون الثاني/يناير 2023).

في خطوة تبدو هامشية بعض الشيء هي طريقة تعامل مكتب التحقيقات الفيدرالي، أف بي آي، مع كلا الرئيسين، ترامب وبايدن، وسريان شكوك الشعب الأميركي في وظيفة جهاز الأمن الداخلي بأنه يكرّس "وجود معادلتين للعدالة: الأولى للنخبة والثانية للعامة".

في حالة الرئيس ترامب أقدم الجهاز على "دهم" منزله الخاص في فلوريدا، أما في الحالة الثانية فقد "وافق الرئيس على تفتيش منزله الخاص من قبل الـ أف بي آي"، بعد توصل فريق مستشاريه الضيّق إلى استنتاج أن دخول المكتب على الخط "أمر حتمي" ("سي أن أن"، 23 كانون الثاني/يناير 2023).

اللافت أيضاً تجدد اتهامات قادة الحزب الجمهوري لمكتب التحقيقات الفيدرالي بأنه "اليد الطولى للبيت الأبيض" ومحاباته سياسات الحزب الديموقراطي، وأنه يجب أن يخضع للمساءلة وربما مواجهة دعوات إلى حلّه، بالرغم من عدم توفر أفق نجاحها في الفترة الحالية.

توجهات قادة الحزب الجمهوري ستطال وزير العدل، ميريك غارلاند، على خلفية قراره "دهم" منزل الرئيس السابق ترامب، وتلكئه في ملاحقة نجل الرئيس هنتر بايدن، وإعادة فتح ملف فسادهما مجددا، بصرف النظر عن المدى الذي سيذهب فيه التحقيق ونتائجه المرتقبة. لكن الثابت أنها ستعمّق مآزق الرئيس بايدن، وتشديد الضغط على قادة الحزب الديموقراطي لتقديم مرشح رئاسي آخر.

وتم الكشف مؤخراً عن "تورط" وزير العدل في التغطية على وثائق الرئيس بايدن، وقد "أعدّ لتجاهل بعض تفاصيل التحقيقات الجارية"، خلال الإعلان الرسمي واضطراره إلى الكشف عن الدفعة الثانية من الوثائق التي "تم العثور عليها قبل ذلك ببضعة أسابيع، وكان البيت الأبيض يعرف ذلك" (شبكة "سي أن أن"، 23 كانون الثاني/يناير 2023).

المرشحون المحتملون للحزب الديموقراطي

من بين المرشحين الديموقراطيين المحتملين في المدى القريب يبرز حاكم ولاية كاليفورنيا، غافين نيوسم، الذي يصنّف ضمن التيار الليبرالي لكنه يعدّ "يسارياً متشدداً"، وفق السردية الرسمية السائدة في المجتمع الأميركي.

المرشح الآخر "كان" وزير المواصلات بيت بوتيجيج، لكن تلكؤه في معالجة أزمة إلغاء شركة الطيران الداخلي، "ساوث ويست"، لمئات من رحلاتها ما تسبب في إلحاق الضرر بعدة آلاف من المسافرين خلال بضعة أيام، فضلاً عن إخفاق المناشدات الشعبية والحقوقية لتدخله العاجل في حثه على اتخاذ قرار بشأنها، ترك انطباعاً عاماً بتورطه أو خضوعه لخيار أولوية كبريات الشركات على حساب السلامة العامة.

لعل الحكمة السياسية تقتضي تريّث بروز أي مرشح محتمل في المدى القصير حتى تتضح جملة من المسائل، أهمها، ما سينطق به الرئيس بايدن خلال خطابه السنوي وإن كان سيتضمن إعلانه عن مستقبله السياسي، ترشيحاً أو انسحاباً، ووجهة التحقيقات المثارة من قبل قادة الحزب الجمهوري وما قد تسفر عنه من فتح ملفات بعضها يتعلق بالاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة، وخصوصاً سياسة إجماع الحزبين في مواجهة الصين، التي تم الكشف مؤخراً عن تلقّي جامعة بنسلفانيا، التي تحتضن مركز أبحاث بايدن تبرعات من شخصيات صينية، وصلت إلى 61 مليون دولار.

سلوكيات خاطئة ارتكبها رؤساء أميركيين تسببت في إطاحتهم. الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على خلفية الكشف عن تسجيلاته في فضيحة "ووترغيت" لمحادثاته الرسمية بخلاف صلاحياته الممنوحة، والرئيس جيمي كارتر لدعمه شاه إيران قبل سقوطه بفترة وجيزة وما نجم عنها من احتجاز الرهائن الأميركيين الديبلوماسيين.

"فضائح" الرئيس بايدن لا تشذ عن مصير اسلافه، خصوصاً عند الأخذ بعين الاعتبار إصرار قادة الحزب الجمهوري على تقديم نجله هنتر للمساءلة والتحقيق نتيجة "فساد" والده إبّان ولايته كنائب للرئيس الأميركي، والإثراء غير المشروع الناتج من علاقة الأخير مع الحكومة الأوكرانية، قضائياً ومالياً.

* نشرة التقرير الأسبوعي لمراكز الابحاث الأميركية

اضف تعليق