إن انعدام أمن المعلومات لا يعني فقط إمكانية التأثر بالدعاية، بل أكثر بكثر من ذلك؛ إنه تشويه متعمد ومنهجي لنظام إيكولوجي للمعلومات بأكمله، تمكنه وتعززه القدرات الرقمية. إن أساليب القرن العشرين التي تتمثل في عزل أو منع قنوات الدعاية التي يبثها خصومنا، لن تكفي. فهذه القنوات بُثت...
بقلم: آن ماري سلوتر، بن سكوت

واشنطن العاصمة- بعد الانتخابات النصفية الأخيرة التي جرت في الولايات المتحدة، بدأ الأمريكيون يتنفسون الصعداء بعد فشل ما روجت له وسائل التواصل الاجتماعي من تهديدات بالاعتداء على الناخبين ومسؤولين في العمليات الانتخابية. وهذه علامة مقلقة تدل على أن التصويت السلمي في عصرنا الحالي أصبح مفاجأة سارة.

ما الذي يدفع البعض إلى رفض شرعية الانتخابات النزيهة، وقبول نظريات المؤامرة، بل حتى اللجوء إلى العنف السياسي؟ نعتقد أن الإجابة تكمن في خطر جديد يهدد الديمقراطيات عبر مختلف أنحاء العالم: انعدام أمن المعلومات.

إن انعدام أمن المعلومات لا يعني فقط إمكانية التأثر بالدعاية، بل أكثر بكثر من ذلك؛ إنه تشويه متعمد ومنهجي لنظام إيكولوجي للمعلومات بأكمله، تمكنه وتعززه القدرات الرقمية.

خذ على سبيل المثال أوجه التشابه مع الكوارث الطبيعية وانعدام الأمن المناخي. في الماضي، كنا نتعامل مع الأعاصير، وموجات الجفاف، والفيضانات، على أنها حالات طوارئ منعزلة. واليوم، أصبحنا ندرك أن تغير المناخ يهدد أنظمة كاملة من الزراعة، والطاقة، والسلامة العامة. كذلك، عالجنا المجاعة ذات مرة بالاستجابة لكل حالة على حدة. وها نحن اليوم نَعي أن انعدام الأمن الغذائي تهديد دائم ليس فقط للحياة، ولكن أيضًا للتماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي.

وتتطلب التهديدات النظامية استجابة منهجية تعالج الظروف التكنولوجية التمكينية. إن أساليب القرن العشرين التي تتمثل في عزل أو منع قنوات الدعاية التي يبثها خصومنا، لن تكفي. فهذه القنوات بُثت من عدد محدود من المصادر المعروفة التي يمكن التعرف عليها بسهولة من خلال الأصل، والمتجه، والتباين مع وسائل الإعلام التقليدية.

إن المعلومات أصبحت اليوم تُبث بطرق متعددة عبر العديد من القنوات- مما يؤدي إلى تحسين الخطاب والوصول من خلال استخدام تفاعلٍ بين البث والوسائط الرقمية، بما في ذلك الوسائط الاجتماعية، والاستفادة من تقنيات الإعلان عبر الإنترنيت، والاستهداف، والتلاعب الخوارزمي لزيادة حجم الجمهور إلى أقصى حد. فعلى سبيل المثال، لا يكتفي الكرملين بنشر دعايته المتعلقة بأوكرانيا عبر قنوات وسائل الإعلام الحكومية، سواء قنوات البث الإذاعي أو الرقمي، بل يعتمد أيضًا على شبكة كبيرة من القنوات الرقمية السرية تتحدث بلغات عدة وتُبث على منصات متعددة. ونشرت هذه القنوات نظريات المؤامرة بشأن النازيين في كييف، وألقت باللوم على الغرب في عدم وجود شحنات غذائية منعتها روسيا، وأثارت الاضطرابات في الاتحاد الأوروبي بشأن أسعار الطاقة واللاجئين.

إن هذه الأساليب تضخم المؤامرات المحلية وتطمس التمييز بين العملاء الأجانب والمحليين. وفضلا عن ذلك، ليس الهدف منها مجرد الإقناع ولكن إضعاف الثقة في الحقائق، وزرع الشكوك في كل مكان بشأن وجود "أخبار كاذبة". إن الخوارزميات التي ضُبطت لزيادة الانتباه تعمل على تسريع التأثير.

وتستجيب الحكومات الاستبدادية مثل الصين لهذا التهديد من خلال السيطرة على عمليتي إنتاج وتوزيع وسائل الإعلام على المستوى المحلي. وعلى الرغم من أن السلطات لا تستطيع القضاء على جميع الآراء المعارضة على الإنترنت، إلا أنها تمنع حدوث اضطراب كبير في خط الحزب. واختارت روسيا نهجًا مشابهًا- وإن كان أقل فعالية بكثير من نظيره الصيني.

يجب أن تجد الديمقراطيات طريقة أخرى للحد من هذه التهديدات. إذ في المجتمعات الديمقراطية، تعد حرية التعبير ضرورية باعتبارها حق أساسي من حقوق الإنسان، وآلية رئيسية لمساءلة الحكومة. لذا يجب أن نتأكد خلال استجابتنا للمخاطر التي تهدد المعلومات، من أن العلاج ليس أسوأ من المرض.

ولا يمكننا إلغاء أسلوبنا للحد من هذه المشكلة. فلكي نتصدى لانعدام أمن المعلومات دون تقييد حرية التعبير، يجب أن نعالج هيكل السوق ومنطق نموذج الأعمال الذي يفضل الجدل على النزاهة. وهذا يعني الانخراط المباشر في منصات التكنولوجيا الضخمة (الأمريكية والصينية إلى حد كبير) التي تتمتع بسيطرة غير مسبوقة على توزيع المعلومات على مستوى العالم.

ولم تسبب هذه الشركات المشاكل الاجتماعية التي تعزز الصراع السياسي المعاصر. ولكنها العامل الأكبر الوحيد في تسريع التوجهات نحو التطرف. إذ على الرغم من جهودها للحد من النشاط غير القانوني وإحباط استغلال خدماتها، لا تزال منتجاتها مصممة للاستفادة من الغضب، وعرضة للانتهاكات على نطاق واسع.

وفي غضون ذلك، أدت القوة السوقية التي تمارسها على الإعلان إلى تدمير الجدوى التجارية للصحافة التقليدية، التي كانت ذات عاملا مهما في استقرار السياسة الديمقراطية من خلال بناء توافق في الآراء بشأن الحقائق الأساسية. واستجابت العديد من وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية لتلك القوة بانضمامها إلى السباق نحو القاع.

يجب أن تعامل الحكومات الديمقراطية أنظمة المعلومات على أنها بنية تحتية حيوية، تمامًا مثل الغاز، والمياه، والكهرباء، والاتصالات. وتتمثل الخطوة الأولى في مطالبة المنصات الأمريكية مثل Facebook فيسبوك وYouTube يوتوب، وTwitter تويتر بالحد من استغلال خدماتها من طرف الحكومات الاستبدادية التي تشن حملات تضليل متعمدة. ولكي نعزز آليات الدفاع في الأنظمة الديمقراطية بصورة أكبر، نحتاج إلى معايير لأسواق المعلومات يمكن على أساسها تقييم المخاطر الأمنية المحتملة، مثل تأثير السيطرة الصينية على TikTok "تيك توك" (المنصة الأكثر شعبية بين الشباب).

ويجب ألا تتمثل هذه المعايير في أن تُملي الحكومات المحتوى المسموح به وغير المسموح به على القنوات الإعلامية. فهذا قرار تتخذه الجهات الفاعلة الخاصة. ولكن رغم أن كل منصة تقنية في السوق لديها اليوم قواعد تحكم المحتوى والسلوك بالإضافة إلى جمع البيانات الشخصية واستخدامها، إلا أنها غالباً ما تقوم بعمل ضعيف في تطبيق قواعدها الخاصة. ويجب أن يفي المنظمون الحكوميون بوعودهم وأن يضعوا معايير إضافية لحماية المستهلك بنفس الطريقة التي ننظم بها سلامة الصناعات الغذائية، والأدوية، والموارد الطبيعية.

وفضلا عن ذلك، لإعادة ربط المواطنين بقاعدة مشتركة من الحقائق، يجب أن تعزز الديمقراطيات صحافة الخدمة العامة. وتتمثل إحدى الأساليب لتحقيق ذلك في استخدام سياسات المنافسة- مثل تلك التي اعتمدتها أستراليا مؤخرًا- والتي تُلزم شركات التكنولوجيا التي تتمتع بقوة سوقية على الإعلانات الرقمية بالتفاوض بشأن اتفاقيات مشاركة الإيرادات مع المؤسسات الإخبارية. ويمكن أيضًا اعتماد سياسة فرض الضرائب على المعاملات الرقمية لتعزيز الاستثمار في وسائل الإعلام العامة، والإعلام المحلي، ومحو الأمية الإعلامية، وكليات الصحافة.

إن القواعد والمعايير والاستثمارات في سوق وسائل الإعلام ليست مجرد سياسات اقتصادية. إنها ضرورات أمنية تنضاف إلى الطاقة الخضراء والصحة العامة. وما لم نبادر إلى العمل، فسوف يضعف أمن معلوماتنا أكثر، مما يقسمنا ضد أنفسنا. وحينها، يستطيع الحكام المستبدون والسفراء المحليون تشكيل رواية بشأن تكثيف الخلل الديمقراطي بأسلوب يخدم مصالحهم الذاتية.

وتحدد استراتيجية الأمن القومي التي وضعها الرئيس الأمريكي جو بايدن، والتي صدرت في أكتوبر/ تشرين الأول، مجموعة من "التحديات العابرة للحدود" التي ليست "ثانوية بالنسبة للجغرافيا السياسية"، ولكنها تقع "في صميم الأمن القومي والدولي". وتشمل هذه التحديات تغير المناخ، والأمن الغذائي، والأمراض المعدية، ونقص الطاقة والتضخم. ويندرج انعدام أمن المعلومات ضمن تلك القائمة أيضًا، لأنه يؤدي إلى تفاقم هذه التحديات، ويشكل تهديدًا خطيرًا خاصًا به على الديمقراطية.

......................................
* آن ماري سلوتر، المديرة السابقة لتخطيط السياسة في وزارة الخارجية الأمريكية (2009-2011)، الرئيس التنفيذي لمركز الأبحاث أمريكا الجديدة، بروفيسور فخري للسياسة والشؤون الدولية في جامعة برينستون، ومؤلفة كتاب "الأعمال غير المنجزة: عائلة النساء العاملات، وكتاب التجديد: من الأزمة إلى التحول في حياتنا، العمل والسياسة.
** بن سكوت، مستشار السياسات السابق في وزارة الخارجية الأمريكية، هو مدير Reset، وهي جزء من المؤسسة العالمية، Luminate، في مجموعة Omidyar.
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق