معظم الأزمات تحدث داخل النظام القائم وتؤدي في النهاية إلى العودة إلى الحياة الطبيعية، أصبحنا نواجه الآن أزمة في النظام نفسه. شئنا أم أبينا، فإن الواقع الجديد يعلن عن نفسه ويظهر أنه لن تكون هناك عودة إلى الوضع السابق. لقد حال تدمير البشرية للبيئة وتغيير المناخ...
بقلم: يوشكا فيشر
برلين- يعاني العالم من التقاء غير عادي للأزمات، بما في ذلك الحرب العدوانية الروسية في أوروبا، ووباء كوفيد-19 المستمر، والاضطرابات الشاملة التي تعيشها التجارة وسلسلة التوريد، والتضخم، وانعدام الأمن الغذائي، وجميع الأعراض الظاهرة لتغير المناخ. وعلى الرغم من أن النظام العالمي الذي أنشئ بعد الحرب العالمية الثانية أبعد ما يكون عن الكمال، إلا أنه وفر على الأقل الاستقرار وفرصًا كبيرة للتعاون الدولي. ولكن هذا النظام بدأ ينهار الآن.
لقد شنت روسيا، وهي قوة نووية عظمى، هجوما ضد جارتها دون سبب وجيه، حيث قتلت دون تمييز من تسميهم "إخوانها" و"أخواتها". فعلى مدار ستة أشهر حتى الآن، شن الكرملين حملة غزو دموية تليق أكثر بأربعينيات القرن الماضي وليس بعشرينيات القرن العشرين.
ولا تقتصر الحرب على أوروبا الشرقية وحدها. إذ يلوح شبح الحرب والصراع حول مضيق تايوان بين القوتين العظميين اللتين ظهرتا في القرن الحادي والعشرين. فالصين تعمل على تصعيد تهديدها العسكري ضد تايوان، مما يزيد من خطر المواجهة المسلحة المباشرة مع الولايات المتحدة.
كما لا يمكننا أن ننسى إيران، التي كانت تتابع برنامجها النووي بجدية منذ أن سحب الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة في عام 2018. إن وجود إيران مسلحة نوويًا من شأنه أن يشعل فتيلة حرب دائمة جديدة في منطقة مشحونة بالفعل بالتوترات والتقلبات الجيوسياسية.
وتشكل أوروبا الشرقية ومضيق تايوان والشرق الأوسط معًا ثالوثًا من الأزمات الشديدة الخطورة التي تفكك النظام العالمي الذي ظهر بعد الحرب الباردة، وتدمر مبادئه الأساسية المتمثلة في اللاعنف والتعاون الدولي والعولمة الاقتصادية. ويعاني المستفيدون الأساسيون من هذا النظام- شرق آسيا، والاقتصادات الغربية المتقدمة مثل ألمانيا- بالفعل من آثار هذا الدمار الشامل. وتقدم سلاسل التوريد المتشابكة، وانهيار التجارة، وارتفاع التضخم دليلا على واقع اقتصادي جديد.
عندما أنهى انهيار الاتحاد السوفيتي الحرب الباردة والمواجهات الصفرية بين الكتل الجيوسياسية المتنافسة، كان الغرب قادرًا على الاستفادة من انتصاره لأنه بدا أن لديه نموذجًا بديلًا جذابًا ليقدمه. وكانت رسالته إلى الاقتصادات ما بعد الشيوعية وغيرها من الاقتصادات النامية والناشئة تقول: "فقط اتبع نموذجنا، سوف يوفر اقتصاد السوق والديمقراطية الحداثة والازدهار والاستقرار".
ومع ذلك، لم ينجح هذا النموذج خارج الاتحاد الأوروبي وأمريكا الشمالية وشرق آسيا كما وعدت بذلك الدول الغربية. إذ حدثت أكبر قصص النجاح الاقتصادي في أماكن مثل الصين وسنغافورة اللتين اعتمدتا بعض إصلاحات السوق بدون ديمقراطية. وعندما اندلعت الأزمة المالية لعام 2008 في الولايات المتحدة، وانتشرت بسرعة إلى بقية العالم، أصبح الكثيرون يشُكُّون في تفوق النموذج الغربي.
إن السؤال المطروح الآن هو ما إذا كانت الخصومات الجديدة بين القوى العظمى ستتطور إلى مواجهة منهجية ذات نطاق أوسع بين الأنظمة الديمقراطية (الولايات المتحدة وأوروبا)، والانظمة الاستبدادية (الصين وروسيا). هل الحرب الباردة الثانية على الأبواب؟
هناك الكثير من الأدلة التي تشير إلى ذلك. فالوضع اليوم أصبح أصعب وأكثر تعقيدًا مما كان عليه في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، عندما بدأت الحرب الباردة الأولى. ويجب أن تضاف الآثار الحادة المتزايدة لتغير المناخ إلى الخطر القديم الجديد المتمثل في الصراع العنيف (في أوروبا، أو شرق آسيا، أو الشرق الأوسط). وكما أظهرت موجات الحر غير المسبوقة التي اندلعت صيف هذا العام في كل من الصين وأوروبا، فإن أزمة المناخ ستؤدي إلى تضخيم الأزمات الجيوسياسية والاقتصادية الجديدة. إذ لم يعد بإمكان البشرية تحمل تجاهل أو تأجيل الاستثمارات في التكيف مع المناخ والتخفيف من حدته، الأمر الذي سيتطلب إعادة تشكيل المجتمعات الصناعية في العالم على نحو كامل.
لقد حُسمت الحرب الباردة الأولى في نهاية المطاف بسباق نحو التسلح النووي وتفوق النظام الاقتصادي الغربي. وسيحدَّد هذا التفوق من خلال القدرة على بناء نظام عالمي أكثر إنصافًا وعلى حل أزمة المناخ. ولكي تفوز الديمقراطيات الغربية، يتعين عليها أن تقدم شيئًا يفيد الجميع حقًا. ورغم أن التسلح العسكري سيحافظ على دوره المهم في ردع الخصوم المحتملين، ستُتخذ القرارات الرئيسية في مجالات أخرى.
إن أهم شيء يجب أخذه في الاعتبار بشأن أزمة المناخ ليست سمة أساسية للتقدم التاريخي للمجتمعات البشرية. إذ في حين أن معظم الأزمات تحدث داخل النظام القائم وتؤدي في النهاية إلى العودة إلى الحياة الطبيعية، أصبحنا نواجه الآن أزمة في النظام نفسه. شئنا أم أبينا، فإن الواقع الجديد يعلن عن نفسه ويظهر أنه لن تكون هناك عودة إلى الوضع السابق. لقد حال تدمير البشرية للبيئة وتغيير المناخ دون أي استمرار للنماذج الحالية.
ومن المؤكد أن العدوان الروسي يهدد النظام. ولكنه خطر مألوف نعرف كيف نتعامل معه. لكن الأمر يختلف بالنسبة لارتفاع درجات الحرارة، وجفاف مجاري الأنهار، والمناظر الطبيعية الجافة، وانخفاض غلات المحاصيل، والنقص الحاد في الطاقة، واضطراب الإنتاج الصناعي. لقد كنا على علم منذ وقت طويل أن هذه المشاكل كانت آتية. ولكننا لم نفعل شيئًا إزاء ذلك، لأن الاستجابة الفعالة حقًا ستتطلب تحولا تاريخيا، وإصلاحًا منهجيًا لسياساتنا واقتصاداتنا ومجتمعاتنا.
إن معظم الدول كانت ولازالت غير مستعدة للخوض في تجربة كهذه. ولكن يجب على المرء أن يطرح هذا السؤال: عندما تصبح عواقب أزمة المناخ أكثر وضوحًا إلى درجة تشعرك بالألم، هل سيكون لدينا ما يكفي من الوقت لنغير سلوكنا؟ أم أن المناخ قد تجاوز بالفعل نقاط تحول لا رجعة فيها، مما يؤذن بعصر حَرٍّ جديد يجعل الحياة أسوأ للجميع تقريبًا؟
اضف تعليق