واستشرافًا للمستقبل، تتمثل القضية الدولية الحاسمة في كيفية الحفاظ على التعاون العالمي في التعامل مع التحديات العالمية. ستكون روسيا خارج الصورة، لكن الصين ستظل لاعباً رئيسياً إلى جانب الدول متزايدة الأهمية مثل الهند. ويبقى أن نرى ما الذي سيخرج من أنقاض مجموعة العشرين هذا العام...
بقلم: كارل بيلدت
دافوس - والآن بعد أن دخلنا فترة جديدة من الصراع الجيوسياسي، والتدابير الحمائية والعمل الإقليمي، يتساءل المرء ما إذا كان منتدى دافوس العالمي الذي تسوده العولمة قد تلاشى ورحل إلى الأبد. بعد توقف دام لمدة عامين بسبب الجائحة، كان اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي هذا العام في جبال الألب السويسرية أقل أهمية لما كان عليه في السابق.
في العقود الماضية، كان الحدث يدعو لمزيد من التفاؤل. فقد تمت صياغة اتفاقيات سلام جديدة، وكانت الأسواق الناشئة تدفع نفسها نحو الازدهار، وكانت الديمقراطية في طريقها إلى التقدم. وكما قال الكاتب الشهير في صحيفة نيويورك تايمز توماس ل. فريدمان، بدا العالم "مسطحًا" على نحو متزايد، مع اختفاء كل العقبات القديمة التي تحول دون الترابط الدولي.
كان الجميع مُتحمسًا إلى حد ما، كما كان شائعًا في تلك الحقبة. قلة هم الذين اعتقدوا حقًا أن الخروج من الأزمة كان وشيكا، أو أن التاريخ قد انتهى حقًا. لكن لم يكن هناك من يُنكر أن الأمور كانت تتحسن، وأن دافوس كان المكان المناسب للذهاب والإشادة بروح العصر.
كانت الأوضاع هذا العام سيئة وقاتمة، وكانت المحادثات تدور حول الحرب والعقوبات والتضخم ونقص الإمدادات. وقد سعت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا إلى طمأنة الجميع مؤكدة أنها لا تتوقع ركودًا اقتصاديًا. ومع ذلك، كان الاكتئاب هو المزاج السائد في معظم المناقشات الرسمية وغير الرسمية.
يبدو هذا التشاؤم مُبررًا بلا شك. ففي ظل غياب نهاية تلوح في الأفق للحرب الروسية ضد أوكرانيا، فإن أي تعامل مع الاقتصاد الروسي أو الكرملين سيظل في المستقبل المنظور خارج الحدود بالنسبة لمعظم دول العالم - وبالتأكيد الغرب. وفي هذه الأثناء، أصبح مسار الصين غير مؤكد على نحو متزايد. أعتقد أن قيادة البلاد تشعر بعدم الارتياح والقلق إلى حد ما إزاء التزام الرئيس شي جين بينغ الأخير بصداقة "لا حدود لها" مع روسيا، ناهيك عن إستراتيجيته "صفر إصابات بفيروس كورونا"، والتي تم على إثرها إغلاق مدينة شنغهاي -مركز الصين الاقتصادي- وأدت إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية المتصاعدة بالفعل في البلاد.
لكن الأوضاع ليست سيئة للغاية. لقد كانت المعركة ضد فيروس كوفيد 19 انتصارًا للعلم وفي النهاية لفكرة الاقتصاد العالمي المفتوح. نعم، من شأن عدم المساواة في توزيع اللقاحات والعلاجات والاختبارات أن تترك وصمة على استجابة المجتمع الدولي؛ لكن الموجة الأولى من القيود التجارية وقومية اللقاح أفسحت المجال لمزيد من التعاون. أكد العامان الماضيان على قيمة التعاون العلمي العالمي، والأسواق المفتوحة، وسلاسل التوريد التي تعمل بشكل جيد.
لقد قدمت الجائحة دروسًا مهمة لإدارة التحديات المستقبلية، لاسيما فيما يتعلق بأزمة تغير المناخ. في حين أعربت التطورات الأخيرة عن بعض التشاؤم إزاء المحادثات المناخية، فقد يكون هناك جانب مُشرق. يؤدي الارتفاع السريع في أسعار النفط والغاز إلى خلق حوافز قوية لتسريع الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة والبديلة. إذا كان بإمكان العلم فتح المجال أمام تطوير اللقاحات، فيجب أن يكون قادرًا أيضًا على مواجهة التحدي المناخي. هناك بالفعل وعي متزايد بأن المشكلة تتطلب اهتمامًا عاجلاً.
وبالمثل، قطعت الرقمنة أشواطًا طويلة أثناء الجائحة. أعطت عمليات الإغلاق الشاملة للجميع دورة تدريبية مكثفة في الأدوات الرقمية. ستعمل التقنيات والعمليات التي تم تبنيها أثناء الجائحة على تحويل العديد من القطاعات الاقتصادية لسنوات قادمة. وعلى الصعيد العالمي، تزدهر تدفقات البيانات عبر الحدود وتستمر في النمو سنويًا بأرقام مُضاعفة.
وحتى عند مراقبة المشهد السياسي القاتم، يمكن للمرء أن يجد نقطة مُضيئة من حين لآخر. على سبيل المثال، أدت الطلبات المقدمة من فنلندا والسويد للحصول للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي إلى تجديد مصداقية وأهمية الحلف وتعزيز العلاقات عبر المحيط الأطلسي. واليوم، يبرز الاتحاد الأوروبي، بعد أن تجاوز توقعاته في حشد الدعم لأوكرانيا، باعتباره ركيزة أساسية في النظام الأمني الأوروبي. بينما تنتظرنا تحديات مستقبلية هائلة، أصبح لدى الاتحاد الأوروبي الآن مقاما قويا يمكن الاعتماد عليه.
وبشكل عام، فقد استعاد الغرب الديمقراطي بعض قوته المفقودة ووضوحه الأخلاقي في معارضته الحازمة والموحدة لروسيا. وفي ظل مواصلة روسيا ارتكاب جريمة العدوان الدولية (فضلاً عن العديد من الفظائع)، تضاءل دعمها في الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى عدد قليل من الأنظمة الخارجة عن القانون.
واستشرافًا للمستقبل، تتمثل القضية الدولية الحاسمة في كيفية الحفاظ على التعاون العالمي في التعامل مع التحديات العالمية. ستكون روسيا خارج الصورة، لكن الصين ستظل لاعباً رئيسياً إلى جانب الدول متزايدة الأهمية مثل الهند. ويبقى أن نرى ما الذي سيخرج من أنقاض مجموعة العشرين هذا العام، إن وُجد أي شيء. إن إنشاء مجموعة جديدة ذات عضوية أكثر صلة لن يكون أسوأ نتيجة.
لقد ولت أيام مجد منتدى دافوس القديمة بالتأكيد. وبدلاً من أن يصبح العالم مسطحًا، أصبح مبعثرًا بالخنادق والحواجز الجديدة. لكن الوضع ليس سيئًا إلى هذا الحد. قد يكون الاكتئاب (النفسي) الحالي غير مبرر كما كان الحال مع الحماسة السابقة. يجب أن نركز على التحلي بالواقعية والوضوح إزاء التحديات العالمية المتزايدة التي نواجهها. وإذا تمكنا من القيام بذلك، فقد نتغلب عليها بلا شك.
اضف تعليق